اذا كان الكثير من الناس يظن أن الهدوء النظري والاستقرار المفترض من الناحية الأمنية الذي يُزعم أن العاصمة العراقية بغداد تشهده، هو انعكاس لواقع حال يُنبئ بتحسن الأوضاع وانتقالها إلى حالة متقدمة من الجودة؛ فإنه يكون قد وقع في شراك واحدة من أكثر الرؤى مغالطة وأعمقها ولوغًا في الوهم، إذ إن المدينة ما تزال مهددة بالخطر، ومحاصرة بعمليات طائفية التوجه بعضها عسكري والآخر ممنهج قائم على سياسية الكبت والقمع، في سياق تغيير التركيبة السكّانية للمناطق التي تؤدي إليها.فأحزمة بغداد باتجاهاتها الأربعة لم تزل ميدانًا إيرانيًا لمشروع تحول كبير ذي هدف بعيد المدى ترقبه الولايات المتحدة وحلفاؤها بعين الرضا، بل تمنحه الوقت والمساحة اللازمة للتنامي بالاشتغال في ملفات ثانوية أو جزئية تُصرف الأنظار إليها لأنها ذات بُعد عاطفي لاسيما حينما يكون الخطاب فيها طائفيًا وعدائيًا مصطنعًا يستدرج السُّذج وأصحاب التفكير المؤطَّر.
تعود (الطارمية) وما جاورها من مناطق الحزام الشمالي لبغداد إلى الواجهة بعد موجة تحريض عالية الصوت والصدى، ليرصد المتابع فيها حملات الاعتقال الموجهة طائفيًا، والعمليات العسكرية المتجردة عن أدنى درجات مبادئ حقوق الإنسان، وإجراءات أخرى كثيرة بلغت من التعسف والاضطهاد حد الذروة وهي تنال من الأهالي ومصادر عيشهم وأسباب أرزاقهم ووسائل تعليمهم، بل تمتد حتى إلى الأموات في المقابر والحيوانات في الحضائر؛ مما يجعل الحديث يأخذ شكلًا آخر من حيث الرصد والتوثيق والتحليل، ذلك أن المنطقة ذات امتداد عشائري من شأنه ـ لو وجد المساندة والدعم ـ أن يكون رقمًا صعبًا في صدّ المشروع الإيراني الآخذ بالتوسع والتغول أكثر من أي وقت مضى؛ ولكن التماهي الدولي والإقليمي المستمر طيلة عقد ونصف من السنين في الوقوف على حقيقة ما يجري على الأرض، والتجاهل المتعمد لطبيعة المشهد العراقي وأبعاد قضيته؛ يعملان على تمكين هذا المشروع ويعززان من فرص نجاحه.
الحقيقة أن تطور الأحداث في مناطق شمال بغداد لا يقتصر على حزامها فقط؛ فهو ممتد أبعد من ذلك، حيث تشهد مدينة سامراء نوعًا جديدًا من إجراءات التغيير الديموغرافي بصبغات قانونية تشرف عليها الحكومة وتنفذها الميليشيات ذات الصلة بطهران، وتتيح لفئات مجتمعية وثقافات أخرى الاستيطان والتملّك والنفوذ، وتعمل على مصادرة حقوق السكّان المحليين علنًا ودون أدنى اعتبار؛ لتُعاد إلى الأذهان فكرة قديمة بتحويل المنطقة الممتدة من الطارمية حتى سامراء إلى محافظة طائفية خالصة بعدما ظن سنّة العملية السياسية بسذاجتهم أنها تلاشت؛ رغم أنها في الواقع أشبه بجمر تحت رماد ينتظر نافخ كير ليُسعره.
وإلى الشرق من بغداد، تعاني محافظة ديالى ما هو أفظع مما يُتصور لاسيما وأن حراك الميليشيات هناك أمنيًا واقتصاديًا وسلوكيًا واجتماعيًا؛ بعيد عن أي بقعة ضوء إعلامية، ومُحصّن من أي رقابة، حتى بات أهل القرى في أرجاء المحافظة لا ينامون في بيوتهم خشية عمليات السطو الطائفية القاصدة إزهاق أرواحهم أو تعذيبهم بعد الاعتقال أو تغييبهم قسرًا، ومن يستطع منهم إيجاد منفذ لوجهة يقصدها فإنه لا يتردد في النزوح والهجرة، ليبدو فراغ المحافظة من أهلها وشيكًا، بموازاة تعبئة الميليشيات نفسها لملء هذا الفراغ المُنتظر!
وليس الحزام الغربي للعاصمة ونظيره الجنوبي بمختلفَيْن عن سابقَيْهما، فللمتابع أن يتصور كيف هو الحال الذي بلغت الأجهزة الحكومية ومجاميع الميليشيات مرحلة تمنع فيها الفلاحين من الزراعة أو جني المحاصيل، وتحظر على الأهالي إدخال مواد البناء والإعمار، بعدما أحكمت قبضتها أمنيًا وحدّت من حركة الناس ممن لا تطالهم الاعتقالات وجعلتهم تحت المراقبة، أمّا إصلاح البنى التحتية والخدمات الصحية والإنسانية فهو من الأمور التي طويَ الحديث عنها نسيانًا منذ أمد.
فكرة تطويق بغداد بإسقاط أحزمتها وتجريدها من أهلها وثقلها العشائري واستبدالها بقوّة السلاح طائفيًا، خطوة مرحلية تمهد لإعادة تصفية العاصمة من الداخل وإحالتها مستعمرة إيرانية ليس على الصعيد السياسي فقط، بل الاجتماعي والثقافي أيضًا، وعند هذه النقطة سيكون إتمام طهران طريقَها الاستراتيجي نحو البحر المتوسط مسألة وقت لا أكثر.