بقلم: الدكتور شاكر الكبيسي
تعني السياسة في الغالب الحكم ومؤسساته وعلومه وفاعليه وعقيدته والحكم يعني تدبُّر ,ادارة ,تولّي أمر, تفاعل مشترك , حماية حقوق , تحقيق مصالح وتوثيق رسمي للنوايا والتوقعات والأهداف لمن يتصدر المشهد السياسي القائم بإعتباره هو المسؤول عن صنع القرارات وتطوير الإمكانيات وترشيد العمليات ومتابعة تنفيذها وبيان أدوار الفاعلين وأنشطتهم فيها والسياسة في اللغة جاءت من مصدر ساس أو يسوس فيقال ساس الخيل اي أهتم به ورعاه وروّضه وعندما إرتقى الإنسان في أعماله وأدواره ونواياه ظهرت له أهمية الأعتناء بالآخرين وتولّى أمرهم والأخذ بأيديهم الى جادة الصواب فأصبح مُسَيِّساً للرعيّة بمعنى أمْرهُم ونَهْيهم فساس الأمر أي قام به ونظَمه وأصلح مسالكه حتى بات كان كل ما يصلح الشيء وينظّمه فهو سياسة وما يُدير شأن الناس وأحوالهم ويلبي حاجاتهم ويطوّر أمكانياتهم ويحمي أوطانهم وينمّي قدراتهم فهو سياسة حتى أمسى كل ما يتعلق بالقيادة والحكم والسلطات في المجتمع غايته أسعاد الناس وإصلاح أمنهم وأستقرارهم فهو سياسة أما الفكر السياسي فهو من المواضيع الهامة التي نالت تركيز وسعي كثير من المفكرين والدارسين في العالم أجمع وهو أحد حقول علم السياسة وأحد فروع العلوم الإنسانية التي ترْعى وتهتم بجميع الإجراءات والوسائل الكفيلة بإتخاذ القرارات المختلفة بُغية إستقرار وإسعاد الجماعات البشرية ومن هنا يمكن القول أنّ الفكرالسياسي هو العلم الّذي يهتم بتوجيه النظام السياسي وتوزيع سلطاته داخل الدولة والمجتمع وخارجهما وهو يضم مجموعة من النظريات والأفكار والقيم التي توجّه الدولة بينما يطّلع نظام الحكم القائد
بتولّي القرارت والقوانين والأنظمة التي تُنظّم حياة الأفراد ومجتمعهم .
الفكر السياسي على ينقسم إلى قسمين رئيسيين هما الفكر السياسي التأريخي الذّي يمثّل التراث الفكري والحضاري في تفسير ظاهرة السلطة والذّي تناوله عدد من الفلاسفة والمفكرين والعلماء على مر الأزمنة وأنتجوا أفكاراً سياسية في تاريخهم القديم والذّي يستوجب على جميع الباحثين الأهتمام بدراسته لكونه يمثل نتاجاً إنسانياً هاماً أمّا القسم الثاني فيقوم على النظريات السياسية التي تهمل الزمان والمكان وتبحث عن أيجاد أحكام واضحة تجمع المناهج التجريبية مع ما هو على أرض الواقع.
إنّ الحديث عن الفكر الإسلامي يجرَنا للعودة الى تلك العصور المُظلمة التي أنارها الفكر الإسلامي وأرشدها وأغنى علومها وفصولها بالإستناد على مباديء الدين الحنيف فقدَم لنا صورة ساطعة لحقبة مهمة من التأريخ العربي والإسلامي وأوضحت لنا كيفية نشوء الدولة الإسلامية وكيف تطورت وسادت العالم أجمع وما هو دور الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في قيادة هذه الدولة الفتيّة وإرساء مباديء العدل والمساواة فيها وما هو الدور الّذي إطّلع به قادة الفتح الأسلامي في توسيع حدود هذه الدولة وحماية مواطنيها دون تفريق بسبب الدين أو القومية حتى تمكنوا من إقامة مجتمع متعاون وآمن ومستقر بالإستناد الى تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة
وعند الحديث عن السياسة والفكرالسياسي في الإسلام نجد أنّ القرآن لم يشر بشكل واضح الى السياسة لكنه أشار العدة مفاهيم جوهرية في علم السياسة فتحدَث عن الملك بأعتباره الحكم على الناس بالعدل والحكمة والإرشاد والنهي عن المنكر والفسـاد وأي إستغلال للبشرفي عدّة سور حيث أشار الى الملك العادل والملك الظالم والمستبد فقال ( فقد أتينا آل أبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيما) كما تحدث عن الأمانة في التعامل والحفاظ على الأموال العامة بحسن الأداء وصدق التعامل فقال ( إجعلني على خزائن الأرض أني حفيظ عليم ) وقال في موضوع المحكومية التي هي من المفاهيم الحديثة في الفكر السياسي فقال( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) وفي مبدأ الشورى الّذي يمثل جوهر الديمقراطية وسماع الرأي الآخر والرأفة بالرعية (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) كما قال (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ ) أي تطَلِعون وتراقبون وتعلمون وتشيرون بالفتوى لي والمشاركة في صنع القرار وفيه دلائل على شفافية التعامل بين الحاكم والمحكوم وتحدث القرآن عن الإستبداد والتسلط فقال( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) وتحدث كذلك عن التمكين في الأرض فقال ( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور) وعن العدل والمساواة بين الناس والدعوة لولاة المسلمين بالحفاظ على المال العام وحقوق الرعية قال (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) كما حفلت آيات متعددة من القرآن الكريم الى ضرورة التعاون والمحبة والإيثار بين الناس لكي يعم الأمن والسلام وهذه من أهم واجبات أنظمة الحكم اليوم وبما أن أغراض الناس تختلف وتتعارض فيكون دور القادة والولاة هو التوفيق بين مصالح البشر وبما يحقق مصلحة الجماعة وتنظيم إدارة حوائجها سواء كانت هذه الجماعة في مجتمع أو دولة . لقد أستند الفكر السياسي الإسلامي الى القيم والمعايير الإنسانية الخالدة المتمثلة بحسن التعامل وطيب الخصال وإرساء حقوق الأنسان وحمايتها وحسن الجوار ورفض أي نوع من أنواع التمييز بين البشر فالناس متساوون في الحقوق والواجبات بغض النظر عن لونهم وعرقهم وديانتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( كلكم لآدم وآدم من تراب )
وعندما صدر الإعلان العالمي لحقوق الأنسان في 10/12/1948م كان هذا الإعلان منسجماً تماماً مع أقوال وأفعال ومواعظ سيد الكائنات محمد صلى الله عليه وسلم ومن هذا المنطلق كانت حيثيّات الإعلان العالمي لحقوق الأنسان قد فرضت على السياسي واجب رعاية مصالح الجميع بطريقة تحقق المنفعة العامة والمصالح المشتركة ودرء المفاسد والمظالم والتي تعد من أهم واجبات الحاكم وكل هذا يندرج اليوم تحت عنوان السياسة ولقد طبّقت هذه المفاهيم واقعياً في أحيان كثيرة دون الأشارة اليها بشكل واضح في الأدبيات الإسلامية لكن مفهوم السياسة ظهر لأول مرة في قول الرسول الكريم ( كانت بنو إسرائيل
تسوسهم الأنبياء, كلما هلك نبيّ خلفه نبيّ) بمعنى أن من يُعلّم ويُرشد ويوجّه ويقود بني إسرائيل هم الأنبياء وهذه إشارة واضحة للسياسة والسياسيين بأخذ دورهم في قيادة المجتمع والدولة ورعاية حقوق الناس وتنظيم أحوالهم وتحقيق حاجاتهم وحفظ أموالهم وكرامتهم وما أن إنتهى دور الأنبياء ظهر عهد الخلفاء الراشدون وهم قد ساروا على نهج نبيهم وسيرته الكريمة فأتصفت عهودهم بالرشادة التي هي اليوم من أهم المفاهيم السياسية الحديثة وما أن حل عهد الملوك والرؤساء إختلفت أحوال الناس وظهر الفساد في الكون والغلبة في المواقف والتنافس على مغريات الحياة ولقد ذكر أبن خلدون في مقدمته أنّ القوة في الدول تركزت في الجيل الأول وما بعده ثم ضعف سلطانها بمرور الأزمنة حتى أذا ما ظهرت الأجيال الأخيرة في تأريخ البشرية لم يكن لهذه الأجيال القوة نفسها والعدالة نفسها والإلتزام نفسه بأمر الله كما كان السابقون لأن سبل الحياة وردت
للأجيال الحالية جاهزة وبسهولة ويُسر فسهلت عليهم أن يفقدوها لأنهم لم يضعوا الركائز الأساسية لبناء الدولة ومقومات تطورها وأزدهارها فأنطبق عليهم قول الشاعر أبو الحسن بن زريق البغدادي في بعض من أبياته في قصيدته المشهورة لا تعذليه فأن العذل يولعه:
أعطيت ملكاً فلم أحسن سياسته كذلك من لا يسوس المُلك يخلعُه ومن غدا لابساً ثوب النعيم بلا شكر الإله فعنه الله ينزعه
خلاصة القول أن الشريعة الأسلامية تمثل فكراً سياسياً وأجتماعياً وفقهياً جامعاً ونشاطاً لعقل المسلم لمواجهة متطلبات الحياة وهي نظرية متسامحة للبشرية أرتكزت على قيم العدالة الإجتماعية والحرية المطلقة للإنسان في خياراته حتى الدينية منها فلا أكراه في الدين ولا جاه وسلطان لأحد الا بمقتضى الحقوق فأوجدت هذه المعاييرمجتمعاً متوازناً قائم على التعاون والتكافل وسلطة قائمة لتحقيق العدالة فأستمدّت هذه السلطة قوتها من إجماع أبناء الأمة وصيانة حقوقهم العامة والخاصة .