اذا احتكمنا الى القاعدة المنطقية التي تقول ( لاتجوز المقارنة بين الاشياء الا اذا كانت تلك الأشياء من طبيعة واحدة) نكون قد وضعنا عراق مابعد 2003 في خانة لاصلة لها بدولة العراق الحديث ، لامن حيث الهوية ، ولا الانتماء ،ولا الدور ، ولا الثقل ، ولا التأثر والتأثير!!
عراق اليوم مختلف جذريا عن عراق الامس القريب والبعيد ، ولولا الثوابت التي يستعصي على السياسة تغييرها ، او محوها لكنا أمام عراق منقطع تماما عن ماضيه الملكي والجمهوري !
مع الأشهر الأولى لتأسيس نظام 9 نيسان 2003 امسك الفريق السياسي القادم من المنافي بمقود الدولة ، واستدار بها الى متاهات ومنعطفات أخرجتها عن المسار التاريخي الذي اختطته على مدى أكثر من ثمانين عاما من عمرها.
كان يعاب على الشيوعيين العرب عموما ، والعراقيين بوجه أخص تأثرهم ب( عاصمتهم الايديولوجية ) موسكو ، حتى تكرست السخرية من تلك التبعية بمقولة شائعة ملخصها ( إذا أمطرت السماء في موسكو رفع الشيوعيون مظلاتهم في العواصم العربية)!
في تلك السنوات ذاع اسم المفكر الشيوعي ميخائيل سوسلوف رئيس تحرير جريدة البرافدا ، وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي الذي اصبح (الفقيه) الذي لا تشق له فتوى عند الاحزاب الشيوعية في كل مكان ، بل ان قيادات الاحزاب الشيوعية كانت تطلب (الافتاء) من سوسلوف في اية قضية اشكالية ، وحين يفتي تكون فتواه قد قطعت قول كل خطيب!!
في الجهة الأخرى كان القوميون الناصريون ييممون وجوههم صوب القاهرة حيث جمال عبد الناصر الذي بزغت زعامته في لحظة حرجة من التاريخ العربي فتحول الى (أب للعروبة) و( ربان لسفينة العرب) كما يراه أتباعه ومحبوه والمغرمون به!!
ذهب غلاة الناصريين في ولائهم لناصر الى حد إنهم كانوا يرون في مصر بلدهم الاول ، ويرون في عراقيتهم مجرد وجود مكاني لأداء دور اوكله لهم عبد الناصر!
صدمي حد الذهول الشاعر والمحامي القومي المعروف الاستاذ عاد تكليف الفرعون رحمه الله حين قال لي ،خلال حوار متلفز أجريته معه في منزله في بغداد، أنه كان يكتب التقارير للسفارة المصرية عن تحركات الجيش العراقي ، وعن الاوضاع الاقتصادية للبلاد، وما يتيسر له من معلومات سرية تخص الأمن العراقي !
وتعمق ذهولي حين فسر لي سبب سلوكه ذاك بقوله: انه لا يدخل في خانة الخيانة والتجسس لأن مصر هي بلدي الأم وليس العراق !
غير أن نزعات التأثر والتبعية التي طبعت سلوك قيادات بعض الاحزاب والشخصيات السياسية لم تنعكس على السياسة العليا للدولة وسلوكها ، وحتى إن حدث ذلك ، كما في عهد الرئيس الراحل عبد السلام عارف، فانه بتأثير محدود لا يصل الى حد ضياع هوية الدولة ، وربط مصيرها ووجودها بمصير دولة اخرى !
يشترك الشيوعيون والناصريون والاسلاميون بمشترك (إطاعة) المراجع السياسية منها والدينية مع فارق ان الإسلاميين يضفون قداسة على مراجعهم تمنحهم صفة(الوصاية الروحية) على اتباعهم !
مثلما يرى الشيوعيون في الشيوعية حلما يتوحد فيه العالم تحت راية المساواة ، وتلغى فيه الفوارق الطبقية ، وتنتفي الحاجة الى الدولة وصولا الى مرحلة نزع الملكية الشخصية ، والعمل بقانون (من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته) يرى الإسلاميون ان دولة الاسلام المنتظرة تتخطى القوميات والاوطان والحدود ، وتذوب في إطارها الهويات القومية والوطنية ، وبالتالي فإن الولاء ( لدولة الاسلام ) والدفاع عنها اوجب من الدفاع عن ( دولة المواطنة )!!
في الحالة العراقية ، وعلى مدى 16 عاما أعقبت الاحتلال الأمريكي ، غابت دولة المواطنة والانتماء، وحضرت دولة الوصاية والولاء .
على الرغم من ان الكثير من احزاب الاسلام السياسي الشيعي لاتدين بمنهج ولاية الفقيه الا انها جميعا تؤمن بالدولة الاسلامية الواحدة التي يطغى فيها الولاء ( لدولة الإسلام) على التمسك بالمواطنة كهوية وانتماء ، وبمعنى آخر فان تراتبية ( الإسلام السياسي) تبدأ بالدين ثم المذهب لتضع الوطنية في ذيل القائمة !
الأمر نفسه ينطبق على احزاب الاسلام السني وان بمفهوم مختلف ومخالف قليلا للإسلام الشيعي ، فدولة ( الاخوان المسلمون) أينما تأسست تجد الاخوان في كل بقاع الارض يوالونها ،ويدافعون عنها، ويسعون لاستنساخ تجربتها في بلدانهم ، ولا يمانعون من نصرة ( الاخواني) الأجنبي على ( الشقيق ) الوطني!
من هنا فإن جمهرة لاحزاب الدينية التي صبغت النظام السياسي بلونها ،بعد ان امسكت بالمفاصل الاساسية والسيادية في العراق ، لا يمكنها الخروج على ثوابتها ومعتقداتها في التخندق مع (دولة الولاء) على حساب ( دولة المواطنة والانتماء)!
من حيث طبيعة العلاقة بين الاحزاب الشيعية وايران فان هذه الاحزاب تتوزع بين موال لايران دينيا وعقائديا باعتباره مؤمن بولاية الفقيه كما هو الحال مع المجلس الإسلامي في عهد السيد محمد باقر الحكيم ، وبعض الفصائل المسلحة التي تعلن ولاءها للمرشد الاإراني جهارا بصفتيه الدينية( كمرجع ومجتهد) ، وولي للفقيه ( كحاكم ينوب عن الإمام الغائب ) تتوجب طاعته ، والامتثال لاوامره ، والانتهاء بنواهيه ، او قد تكون حليفة لإيران ، وذراع من اذرعها لتحقيق مشروع التشيع ، وبناء دولة الشيعة الكبرى التي تذوب فيها الأوطان ، ويطغى الانتماء للدين والمذهب على اي انتماء آخر!
يبقى نوع ثالث من العلاقة بين تلك الاحزاب وايران يتمثل في علاقة الصداقة والتبعية التي لا تقل اندماجا مع المشروع الإيراني عن تلك التي تتعامل مع إيران كدولة ( مرجع) لايجوز عداءها، أو الوقوف بالضد من توجهاتها !
مع اختلاف التوصيفات وتراتبية العلاقة مع ( الشقيق الإيراني الأكبر ) فإن ( الوطنية العراقية) ما كانت ولن تكون الثابت الأول في منهج الاحزاب الشيعية وممارساتها !
من كل ذلك يتضح ان العراق الدولة سيظل مصيره مرتبطا بإيران مادام المتحكمون والحاكمون يؤمنون بان الجمهورية الاسلامية هي الدولة الام وعداها دول تابعة بانتظار ان تلتحق او تلحق بمشروع الدولة الشيعية الكبرى ، وهذا له معنى واحد وهو ان يقى العراق مبتلعا في بطن الحوت حتى تحين لحظة انتشاله وهذا مايسعى اليه الحراك المجتمعي الذي بدأ في الأول ن تشرين الاول، وهو حراك غير مسبوق في تاريخ الدولة العراقية لا بقوة زخمه وثبات جمهوره ووضوح اهدافه ، ولا بقدرته على احداث هزات صادمة للنظام السياسي بكل مرتكزاته وعناوينه !