“تحت قبة ضريح الإمام علي الذهبية يتمدد توسع مدينة النجف الشيعية في العراق التي يتدفق لها الناس بالآلاف.. الزوار العرب ينحنون وهم يمرون من أمام الضريح في حين يجلس الإيرانيون تحت قبته يرتلون أدعيتهم الإيقاعية فيما يقوم الزوار الباكستانيون بالضرب على صدورهم بشكل متناغم، وقد تبدو النجف مع قلة ثرائها ومواردها كمكان لا يقصده أحد سوى الزوار الشيعة، مع ذلك فإن المدينة التي تقع على بعد ما يقارب 160 كم جنوب بغداد هي الآن تحت أنظار طرف متحمس جديد غير اعتيادي يتمثل بالدولة النفطية الغنية وهي المملكة العربية السعودية”.
واضافت: “توُّدد المملكة السنية لشخصية شيعية بارزة في العراق على مدى عام قد يشير الى تحول
انتقالي في ستراتيجية الرياض الإقليمية، وعلى مدى عقود استغلت السعودية وخصمها الشيعي إيران
الانشقاق الطائفي الشيعي ـ السني في العراق لخدمة صراعاتهم الحالية للسيطرة والهيمنة، والآن
يقوم مسؤولون سعوديون بشكل هادئ بتوجيه رسائل لرجال دين كبار في النجف الذين رغم تخوفهم من
الانقياد لصراع بالنيابة فإنهم يتطلعون أيضا للإصغاء الى الرياض”.
وتابعت الصحيفة البريطانية بالقول: “العام الماضي قام وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بأول زيارة
لمسؤول سعودي الى العراق منذ العام 1990 ،ومن جانب آخر ألمح مسؤولون عراقيون مؤخرًا عن احتمال
قيام ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بزيارة قريبة للعراق مع ادعاء قسم منهم بأنه قد يشمل
بجولته زيارة النجف، ولكّن الخارجية السعودية اضطرت يوم السبت الى إصدار بيان يقول بأنه ليس هناك
خطة موضوعة لزيارة من تلك النوع، وذلك بعد تظاهرة في بغداد وقعت نهاية الاسبوع الماضي تحتج
على هذه الزيارة نفذتها إحدى أذرع طهران في بغداد”.
وبينت إن “دعائم هذه التقاربات التجريبية عالية جدًا، ففي أفضل أحوالها تكون مساعي الرياض في إيجاد
حلفاء شيعة ضد إيران كعامل يهدئ من التناحر الطائفي الذي تسبب بتغذية صراع دموي متواصل عبر
المنطقة. أما الجانب السيئ فقد يتمثل بتحول العراق مرة أخرى الى منصة لصراعات إيرانية – سعودية،
كالتي تدور معظمها الآن في اليمن وسوريا ولبنان”.
ونقلت ” فاينانشل تايمز” عن القيادي في حزب الدعوة علي الاديب، قوله: “قد يكون الوضع هادئًا الآن
في العراق، ولكن الصراع بين القوتين قد وصل الى ذروته، ولا أرى أيًّا من الطرفين مستعدًا للحوار وهذه
المنطقة حبلى بالمفاجآت”.
وعادة الصحيفة لتؤكد اّن “عودة التقرب السعودي من العراق هدف تسعى له القوى الغربية منذ زمن
طويل وخصوصا الولايات المتحدة. تلك الجهود تعززت العام الماضي بزيارتين قام بها زعيمان شيعيان
بارزان من العراق الى السعودية هما رجل الدين مقتدى الصدر، والزعيم السياسي للعراق رئيس الوزراء
حيدر العبادي”.
واضافت: “الآن يبدو أن الامير محمد، يسعى لاحتضان هذه الستراتيجية كطريق لتحدي توسع نفوذ إيران
الاقليمي في وقت يشرع فيه بتفحص وإصلاح جذري لاقتصاد بلده”، وهنا بقول ضياء الاسدي، عضو
البرلمان المقرب من الصدر، بحسب الصحيفة: “لقد أدركت السعودية انه لا يمكنها أن تفعل شيئًا من دون
التعايش أو التسامح مع المذهب الشيعي، الآن يريد السعوديون أن يقولوا للناس إنهم ليسوا ضد
الشيعة ولكنهم ضد التشيّ ع التابع لإيران”.
واوضحت انه “كان رجال الدين في النجف على مدى وقت طويل حذرين من التدخل الإيراني، وبدا بعض
السياسيين الشيعة وهم يركبون موجة الوطنية العراقية بعد إلحاق الهزيمة بداعش يلعبون دورهم في
ترسيخ هويتهم المشتركة مع دول الخليج كجزء من سعيهم في الحصول على دعم مالي لجهود إعادة
الإعمار التي تقدر كلفها بحدود 88 مليار دولار، وهم يرون في هذا التطور نقطة أساسية ليس فقط
لإعادة الإعمار بعد ثلاث سنوات من الحرب ضد داعش، بل أيضا لوضع نهاية لعقد كامل من دوامة عنف
طائفي سبقته”.
ويقول رئيس لجنة الاقتصاد البرلمانية أحمد الكناني، وهو عضو في ائتلاف المالكي، إن “أملنا هو أن
تسرع هذه الدول العربية لدخول السوق العراقية، العراق جزء مهم من العالم العربي، وعلى العراق أن
يعود للحضن العربي”.
كما نقلت الصحيفة البريطانية عن إليزابيث دكنسون، قولها، وهي مختصة في شؤون الخليج لدى
مجموعة الأزمات الدولية، إن “الرياض تم ّهد لتقارب صبور طويل الأجل، وتبذل جهدا مضنيا لإعادة بناء
روابط وعلاقات وحتى تعديل صورتها العامة، نحن نرى محاولة حقيقية لتواصل سعودي مع العراق
لصياغة نموذج جديد في كيفية الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة”.
وتقول: “وُتعتبر النجف هدفًا طبيعيًا بالنسبة للسعودية، وقد يكون أكبر انقلاب في الرياض بإقامة علاقة
مع المرجعية الدينية في النجف متمثلة بالسيد علي السيستاني حيث يتمتع الاخير بنفوذ واسع في
العراق وعلى عامة الشيعة الآخرين في العالم، كانت فتوى واحدة صادرة عن المرجع الديني علي
السيستاني في النجف عام 2014 أفضت إلى تطوع عشرات الآلاف من العراقيين للالتحاق بصفوف الحشد
الشعبي لمواجهة داعش بعد اجتياحه لثلث مساحة العراق تقريبا”.
ويقول مسؤولون محليون إن، “مكتب السيستاني، الذي هو نفسه ينتقد التدخل الإيراني ما يزال متخوفًا
من المفاتحات السعودية ولكنه يبقي على قنوات اتصال خلفية معها”.
وتبين الصحيفة، أن “الرياض في النجف وفي كل أنحاء العراق تسعى الى تبادل الهوية العربية بينهم،
وفي شباط الماضي التقى فريق كرة القدم السعودي مع نظيره العراقي في مدينة البصرة في أول
مباراة لهم داخل العراق منذ ثمانينيات القرن الماضي حيث حضرها أكثر من 60 ألف مشجع، ورغم خسارة
الفريق السعودي تعهد ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز ببناء ملعب ضخم في بغداد يسع لأكثر من
100 ألف متفرج، ومن ناحية أخرى أرسلت السعودية وفودًا من رجال أعمال وصحفيين للعراق بعد عقود
من القطيعة”.
واختتمت الصحيفة بالقول: “المشككون بالنوايا السعودية من بعض الشخصيات الشيعية يقولون إن صدق
نوايا الرياض يجب أن يمتحن من خلال إحداث تغييرات في تعاملاتها التعسفية مع الأقلية الشيعية لديها،
في حين يدعو آخرون الى وضع نهاية لحرب اليمن أو مطالبة رجال الدين السعوديين بإصدار فتوى تعلن
فيها بأّن التشيّ ع فرع شرعي من الإسلام. ويلقي آخرون اللوم على الرياض بأنها ما تزال تحمل وزر ظهور
التطرّ ف والإرهاب”.
المصدر: صحيفة “فاينانشل تايمز” البريطانية