ما بعد أزمة فيروس كورونا؟ الإقتصاد الجزئي ومبدأ الإعتماد على الذات.
بقلم: د. مراد البواب
لا يختلف إثنان بأن ازمة جائحة كورونا ستوثر بطريقة أو بأخرى على كل من: الإقتصاد الكلي والإقتصاد الجزئي، في العالم ككل وفي الأردن بشكل خاص، فبالرغم من الإختلاف ما بين محاور ومجالات وإهتمامات هذين الفرعين من علوم الإقتصاد إلا أن كليهما يتم دراستهما واستخدامهما معاً، لمعرفة وإتخاذ أفضل القرارات التي تهتم بالأفراد وبالشركات والصناعات وباقتصاد الدولة ككل.
ومن هنا لابد من من التركيز على أهمية علم الإقتصاد الجزئي في المرحلة القادمة لكونه يهتم بدراسة السلوكيّات الاقتصاديّة لكل وحدة من وحدات الاقتصاد، مثل: الأفراد، أو الشركات، أو القطاعات الصناعيّة، ويهتم بالعوامل المؤثرة على خيارات الأفراد، وتأثير التغيّرات الاقتصاديّة في صناعة القرار في الأسواق، من هنا نجد أنفسنا أمام سؤال محوري هام وهو ما حجم تأثير جائحة فايروس كورونا على الإقتصاد الجزئي في الأردن؟.
بالعودة إلى مفهوم وأهمية الإقتصاد الجزئي بشكل عام نجد أن أحدى أهم المحاور التي يتناولها هذا الفرع من فروع علم الإقتصاد هما الفرد والذي يشكل نواة القطاع العائلي في المجتمع والشركة سواء كانت شركة تجارية أو صناعيه أو خدماتيه والتي هي نواة قطاع الشركات في المجتمع.
في ظل حقيقة أن أغلب المجتمعات العربية ومنها المجتمع الأردني هي مجتمعات إستهلاكية، لنبدأ أولا بالفرد الذي ينصب سلوكة الأساسي وبشكل عام على الإستهلاك لإشباع حاجاته ورغباته المختلفة، أو ما يسمى بالإقتصاد الإنفاق الإستهلاكي العائلي من خلال الطلب على البضائع والخدمات المختلفة، هذا الفرد يتحدد سلوكه الإستهلاكي بشكل أساس بالدخل الحقيقي القائم أو المتوقع له خلال فترة زمنية معينة، وبسعر الفائدة الحقيقي، وبالتضخم، والتي بمجملها تؤثر بصورة مباشرة على القدرة الشرائية لهذا الفرد سواء كان هذا التأثير طرديا أو عكسيا.
من المتوقع أن تؤثر هذه الجائحة على دخل شريحه كبيرة من أفراد المجتمع الأردني وخصوصا القطاع الخاص الذي يبلغ عدد العاملين في حاليا حوالي (1.1) مليون موظف، مما قد ينعكس سلبا على قدرته الشرائية وبالتالي حجم الإنفاق الإستهلاكي الخاص به، وهذا بالنتيجة سيؤدي إلى تغيير النمط الإستهلاكي لهذا الفرد، وتوجهه لإستهلاك السلع الرئيسية فقط والإبتعاد كليا عن السلع المكملة، إذا ما إفترضنا جدلا أن (50%) من هؤلاء الأفراد لهم هذا السلوك حاليا وقبل هذه الجائحة، وعليه فمن المتوقع أن يكون تأثير الأزمة مزدوج وبإتجاهين متوازيين الأول سيتغير النمط الإستهلاكي للشريحة الثانية التي كانت تنفق جزءا من دخلها للحصول على السلع والخدمات المكملة وإكتفائها بالسلع الأساسية فقط والإتجاه الأخر هو تأثر الشريحة الأولى التي كانت بالأصل تنفق على السلع الأساسية وبالتالي التقليل قدر الإمكان من هذه السلع ضمن حدود الدخل المتاح لها، وبالمحصة كلا الإتجاهيين سيكون لهما تأثير مباشر في أحد مكونات الطلب الكلي وهو الإنفاق الإستهلاكي الخاص وبالتالي تأثر الناتج المحلي الأجمالي للأردن، وعليه ما هو الحل للمحافظة على طبيعة النمط الإستهلاكي الحالي في حدود قيد الدخل وبإفتراض ثبات العوامل الأخرى؟، الإجابة الوحيدة على هذا السؤال تكمن في ثلاث كلمات وهي “الإعتماد على الذات”، فليس هناك وبالمنظور القريب لأي مساعدات خارجية أو منح للأردن لكون أغلب الدول تعاني كما الأردن من هذه الجائحة.
كيفية الإعتماد على الذات بالنسبة للفرد تستند أولا في تحديد الآليات المناسبة للمحافظة على نسب التوظيف الحالية وخصوصا بالقطاع الخاص وبالتالي عدم تأثر دخل هذا الفرد، وثانيا تحديد ما هي النفقات الأساسية للفرد الأردني، والتي هي كما معلوم للغالبية نفقات المأكل والمشرب والملبس والتعليم والصحة والطاقة وخدمة الدين للمقترضين، وعليه لعل من أهم الحلول الممكنة بمرحلة ما بعد الجائحة هو ما يسمى إقتصاديا بتخفيف التشريعات “De-Regulation” والتي منها الإستمرار في إستخدام النسب المخفضة للمساهمة في الضمان الإجتماعي وخصوصا النسبه التي تساهم بها الشركات، وتخفيف التشريعات المتعلقة بضريبتي الدخل والمبيعات وتخفيف التشريعات المتعلقة بعملية الإقتراض، بالإضافة إلى إمكانية تأجيل أقساط القروض الحالية لفترة لا تقل عن ثلاثة شهور، وجدولة الأقساط المستحقة المتراكمة على بعض الأفراد، ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة قدر الأمكان لضمان إستمراريتها والتقليل من خطر إنهاء خدمات الموظفين، وكذلك محاولة التواصل مع المؤسسات التعليميه والصحيه الخاصة بهدف التخفيف من الكلف التعليمية والصحيه التي تستهلك جزأً كبيرا من دخل الفرد، ولا ننسى أن على الفرد دورا كبيرا في إدارة سلوكه الإستهلاكي وفقا لرغباته وحاجاته وقيد الدخل الذي يعيش فيه. وهذا بالنتيجة يأخذنا إلى المحددات الأخرى للسلوك الإستهلاكي للفرد وهي سعر الفائدة الحقيقي والتضخم، وبهذا الصدد يقع على عاتق الحكومة إيجاد كافة الوسائل والأساليب اللازمة ما بعد هذه الجائحة لتخفيض أسعار الفوائد على القروض والعمل على ضبط آليات التسعير بما يضمن عدم إرتفاع معدلات التضخم والتي من شأنها أن تؤثر على القدرة الشرائية للفرد.
من ناحية أخرى نجد أن قطاع الشركات وبالأخص الشركات الصغيرة والمتوسطة هي على أعتاب مرحلة صعبه جدا تتطلب تكاثف كافة الجهود لإستمراريتها وديمومتها، فكيف نطبق مفهوم الإعتماد على الذات في هذا القطاع الهام، لاشك أن ذلك يستند على كافة الحلول الخلاقة التي من شأنها المساهمة في المحافظة على ديمومة وإستمرار هذا القطاع، وكتحليل بسيط سنرى أن أهم مرحلة لضمان إستمرارية هذه الشركات هو الستة أشهر اللاحقة لإنتهاء الأزمة، والتي تحتاجها مجموع هذه الشركات سواء كانت صناعيه أو تجارية أو خدماتيه لإعادة هيكلة أمورها الداخلية والخارجية وضمان العمل على تقديم منتجاتها وخدماتها بشكل صحيح، فماذا تحتاج هذه الشركات؟ لا شك أن البعد الأول يتمثل في ضمان توفر السيولة الكافية لهذه الشركات لتغطية نفقاتها التشغيلة بأقل تقدير، وهذا يتطلب العمل على تخفيض تكاليفها التشغيلية غير المباشرة من كلف إضافيه على الرواتب، وكلف الطاقة وغيرها من الأمور، والبعد الثاني يتعلق بالتشريعات الناظمة لعمل هذه الشركات وكيفية التخفيف منها بدأ من مدخلات العملية الإنتاجية أوالتجارية أو الخدمية وصولا مخرجات هذه العمليات، فتأجيل دورية تحصيل الضرائب غير المباشرة مثل ضريبة المبيعات لتصبح مثلا كل ثلاث أو أربع أشهر بدلا من شهرين وتأجيل تحصيل الجمارك لفترات مناسبة قد تساهم في دعم هذه الشركات، أما البعد الثالث فهو كلفة خدمة الدين لهذه الشركات إذ أن أغلب هذه الشركات قامت بتمويل جزء من أصولها من خلال الإقتراض وبالتالي تخفيض نسب الفوائد سيساهم في تقليل عبء خدمة الدين وبالتالي المساهمة في تعزيز سيولة هذه الشركات، ولا شك أن على هذه الشركات كذلك مراقبة دورة حياة النقد لديها ومتابعة التدفقات النقدية الداخلة والخارجة بشكل دوري ومستمر.
وفي النهاية حمى الله الوطن قائدا وشعبا وحكومة وقوات مسلحة، وأعان الجميع في تجاوز هذه المحنه.
بقلم الدكتور مراد البواب