قراءة آنية للوضع السياسي والأمني في العراق
الأمريكان بين الإنسحاب وإعادة نشر القوات
بقلم: الدكتور نزار محمود
تناور الجيوش في تحركاتها أحياناً كثيرة لأسباب أمنية وتكتيكية وبسبب ظروف مختلفة.
وقبل الحديث عن موضوعة اعادة الانتشار أو التموضع للقوات الأمريكية في العراق، لابد من الإشارة والتذكير بأن الإدارة الأمريكية لا يمكن إلا أن تكون على علم بمدى التدخل الإيراني في الشأن العراقي وبمدى دعمها للميليشيات الشيعية المسلحة الخارجة عن سلطة الدولة العراقية، لا بل والمهددة لحكوماتها منذ أن قاموا بغزو العراق وإسقاط نظامه المناوىء لإيران واحتلاله بعون إيران بصورة غير مباشرة وأعوانها في العراق بصورة مباشرة.
كما لابد أن نذكر بأن انسحاب القوات الأمريكية عام ٢٠٠٩ كان بمثابة تسليم أمن العراق كلياً إلى إيران، وهو ما استغلته إيران والميليشيات التابعة والموالية لها لتعزيز نفوذها وتحقيق أجنداتها، وهو ما تؤكده الفقرة الخاصة بضمان الحفاظ على العملية السياسية الخادمة واقعياً لإيران نصاً وروحاً، وفي إطار استراتيجية شاملة للعراق والمنطقة.
وفي إطار الاستراتيجية الأمريكية هذه وأهدافها السياسية والاقتصادية والأمنية في العراق والمنطقة، والتي كانت قد امتدت على عقود من الزمن واشتملت على أساليب كثيرة، في غالبيتها غير مشروعة، وقدمت في سبيلها كثيراً من الضحايا وصرفت المال الكثير، فإن الأمريكان ومستشاريهم ليسوا بتلك السذاجة والغباء لتسليم العراق على طبق من ذهب إلى إيران صادقة وقوية ومحبة للسلام والتعايش مع جيرانها في إحترام مصالحهم. من هنا تلونت تلك السياسة تجاه إيران، أداة التدمير والإبتزاز، وتنوعت بين هجوم ودفاع، وبين ترغيب وترهيب، وبين صد واحتواء.
أعود لتوضيح فكرة الانسحاب وإعادة التموضع للقوات الأمريكية في العراق التي حصلت خلال الأيام القليلة الماضية، فأقول:
إنطلاقاً مما أشرت له من أهداف واستراتيجيات للأمريكان، وتجاوباً مع الظروف والمستجدات المتمثلة بزلزال كورونا في تداعياته المتشعبة، وقرب الانتخابات الأمريكية، ولأهمية الدور الإيراني في نتائجه بالنسبة للقوى العظمى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الرئيس ترامب لن يكون من الغباء والتهور والرعونة ما يدفعه لدخول حرب كبيرة ضد إيران، وحتى أتباعها في العراق في الوقت الحاضر، لكنه سيبقى يناور ويماطل ويهدد ويزيد من العقوبات دون تعريض قواته وقواعده إلى خسائر في زمن أزمة الكورونا، التي لا يعرف بعد مداها، والانتخابات وبيع السلاح للأصدقاء والابتزازات وفوضى وهزالة الحياة السياسية في العراق.
إن ما حصل من أمر هجمات الميليشيات على القواعد والمؤسسات والمصالح الأمريكية ورد فعلها يدلل على أن ما تقوم به القوات الأمريكية في الوقت الحاضر، ليس إلا إنسحاباً عسكرياً تكتيكياً وتسليماً لقواعد بات أمر البقاء فيها وحمايتها مكلفاً جداً في الوقت الحاضر، وليس إعادة إنتشار، وتركها في الوقت الحاضر، ما عدا قاعدتها في عين الأسد التي نصبت فيها بالأمس صواريخ الباتريوت، وقاعدتها في أربيل، وذلك لأسباب أمنية بالنسبة لحلفائها في المنطقة، ولأهداف استراتيجية اقتصادية.
ومن الطبيعي أن ينظر إلى ذلك باعتباره انتصاراً للميليشيات الشيعية والنظام الإيراني لا سيما بعد قيام الأمريكان بقتل سليماني والمهندس وما قامت به إيران وميليشياتها من ردود فعل انتقامية. لكن تلك الميليشيات وحكومتها التابعة لإيران وما يعصف بها من أمر وباء كورونا وتدني أسعار النفط الهائل والتظاهرات التي جمدت لكنها لا تزال حية في روحها وأهدافها، لن يديم الشعور بذلك الإنتصار لفترة طويلة.
ولابد لي في ختام المقال من الإشارة إلى براءة أو سذاجة من يراهن على الأمريكان في تحرير الدار! ولي حول ذلك كتابات سابقة.
برلين، ٣١/٣/٢٠٢٠