لم يتعرض أي رئيس وزراء عراقي إلى التهديد والشتم والانتهاك العلني من جانب الفصائل الميليشياوية، الحشدية أو غير الحشدية، كما تعرض له رئيس الوزراء الحالي، مصطفى الكاظمي. بدأ هذا التعرّض منذ الأسابيع الأولى للرجل في الحكم، في شهر حزيران (يونيو) 2020، عندما سار نحو 13 شخصاً ذكرت بيانات من جماعات سياسية مرتبطة بالحشد الشعبي أنهم ينتمون لأحد ألويته الرسمية، اللواء 45، على صورة كبيرة للكاظمي وُضعَت على الأرض كي يطأها المُطلق سراحهم بأقدامهم. كان هذا بعد أيام قليلة من عملية البوعيثة في صيف ذلك العام، عندما اعتقلت قوات مكافحة الإرهاب مسؤولاً ميليشياوياً رفيعاً متخصصاً بتنظيم عمليات إطلاق الصواريخ التي كانت تستهدف حينها المنطقة الخضراء حيث السفارة الأميركية، هدف هذا القصف الصاروخي.
كان هؤلاء الـ13 منتسباً يرافقون هذا المسؤول في أثناء قيادته عملية إطلاق الصواريخ التي اعترضتها مكافحة الإرهاب عند التنفيذ، كما أشار بيان رسمي عراقي حينها. لم يكن هؤلاء هم هدف العملية، بل المسؤول الميليشياوي الذي كان يقودهم وبقي في الاعتقال بعدهم على مدى أشهر مقبلة قبل إطلاق سراحه بعد ضغوط كبيرة من المنظمة السياسية التي ينتمي إليها.
كان مشهد مشي هؤلاء المنتسبين على صورة رئيس الوزراء معداً بعناية لتحقيق بضعة أهداف في الوقت ذاته. في مقدمتها كان تسجيل انتصار إعلامي على الكاظمي الذي تحدى الميليشيات باعتقالهم وضمان إظهاره ضعيفاً بإزائها في سياق يتصل بتأكيد الإهانة العلنية بالرغم من الفشل الميليشياوي في إطلاق سراح مسؤول إطلاق الصواريخ. لكن الرسالة الأهم في كل ذلك المشهد هو انتصار رغبة الميليشيات على منطق الدولة، إذ كان هؤلاء المنتسبون، بحسب اعلانات عدة حينها، جزءاً من الحشد الشعبي، وبالتالي فإنهم ينتمون للقوات المسلحة العراقية التي يقودها الكاظمي بوصفه القائد العام لهذه القوات. يُعاقب القانون العسكري العراقي على إهانة منتسبين عسكريين لقائدهم الأعلى. يزداد الأمر جدية عندما يكون فعل الاهانة هذا مرتبطاً بدوافع سياسية ينبغي أن تحرص القوات المسلحة على أن تكون بعيدةً عنها، وذلك بنص الدستور وقانون الحشد الشعبي نفسه وقوانين أخرى عراقية نافذة.
كان بمقدور الكاظمي ان يُحاسب هؤلاء المنتسبين ومحرضيهم على أساس القانون العسكري العراقي الذي كان يجري خرقه علانيةً. لكن الرجل فَضّلَ الصمت حينها، لأسباب تتعلق بظروف الصراع السياسي وحساسية اللحظة، وحسابات سياسية ظهرت خاطئة تالياً. كان عدم اتخاذ اجراءات واضحة خطأً فادحاً ساهم في وصول البلد الى اللحظة الحالية من التحدي الميليشياوي لسلطة القانون وللحكومة، إذ فتح الباب واسعاً أمام المزيد من التنكيل الميليشياوي العلني برئيس الوزراء على نحو لا علاقة له بحرية التعبير عن الرأي والخلاف المحمي قانونياً، بينها اعلانات باستخدام العنف ضده أو بالتحريض عليه. تضمنت بعض هذه الاعلانات الخارقة للقانون دعوات لقطع أذني رئيس الوزراء وأنواعاً مختلفة من التحريض على العنف ضده، وصولاً إلى الدعوة الصريحة لقتله مؤخراً، مروراً بمحاولة لاغتياله في منزله أُعلن عنها رسمياً، لكن سرعان ما لفها صمت سياسي وغموض قضائي، فلا إعلانات عن متابعة القضية أو غلقها، أو تأكيد الوصول إلى نتائج بخصوصها سلباً أو ايجاباً.
وإزاء الصمت القضائي على مثل هذه الدعوات العلنية المخالفة للقانون، وتجنب رئيس الوزراء اتخاذ إجراءات رادعة بخصوصها يشترطها القانون، ما كان يجري هو التطبيع التدريجي للمجتمع السياسي والشعبي في العراق على أن يصبح منصب رئيس الوزراء، بشاغله الذي يديره، ضمن دائرة التهديد والتحريض والتنكيل الرسمي والعلني الذي تمارسه جهات يُفترض أنها رسمية ويقوم الكثير من خطابها العلني على حماية الدولة والنظام السياسي الذي يقودها. هذه إحدى علائم التدهور الحقيقي في معنى الدولة وامكانية صناعة تجربة رصينة لها عراقياً.
على الأغلب يميل الكاظمي إلى النظر إلى أنواع التنكيل والتهديد والتحريض، التي يتلقاها بوصفه شاغلاً للمنصب التنفيذي الأعلى في الدولة، في إطار شخصي فردي، وليس مؤسساتياً وقانونياً، وإعطائها تفسيرات سياسية وأخلاقية، بدلاً من ربطها بعواقب قانونية ورسمية. يرتبط هذا جزئياً برغبة الكاظمي في إبراز نفسه كزعيم سياسي متسامح وهادئ وبعيد عن الانفعال، والأهم، متعال على الخصومات السياسية المصلحية والضيقة التي تستغرق “الصغار” وينبغي أن يترفع عنها “الكبار”، وبالتالي فالأفضل هو تجاهل هؤلاء “الصغار” وعدم النزول إلى “المستوى المنحدر” الذي يريدون سحبك اليه! لا يخلو مثل هذا التصوير الأخلاقي للنزاع من نبل وتسامح شخصي، لكنه أيضاً ينطوي على ما يقود القوى الميليشياوية إلى اعتبار مثل هذا الموقف دليل ضعف وعجز، وليس نبلاً وتسامحاً. “رئيس الوزراء” ليس منصباً شخصياً أو استثماراً فردياً، بل هو جزء أساسي، مهم وتعريفي، في الدولة العراقية وفي البنية القانونية والدستورية التي تقوم عليها الدولة، ومهمة شاغل هذا المنصب الدفاع عن معناه الدستوري والقانوني.
بعيداً عن الهدر الاعتباري والرمزي للمنصب من خلال التنكيل السياسي والشخصي بشاغله، الذي يمكن تغطيته في نطاق حرية التعبير المكفولة دستورياً، يمثل التحريض العلني على العنف بحق شاغله، أياً كان، وصولاً إلى التهديد بالقتل، خرقاً جسيماً للقانون ينبغي ألا يمر عبر تصويره المزيف على أنه جزء من الصراع السياسي.
أن يصمت القضاء على مثل هذا التهديد يقول الكثير عن البؤس الواسع والفاضح لوضع حكم القانون في البلد وفشل القضاء في الدفاع عن حكم هذا القانون وهو المؤتمن الأول، دستورياً وقانونياً، على مثل هذا الدفاع. وأن يصمت الساسة على التحريض والتهديد بخصوص شاغل منصب يتقاتل الكثيرون منهم كي يشغلوه، أو على الأقل، كي يضعوا فيه من يمثل مصالحهم، يقول الكثير عن التواطؤ السياسي المخجل الذي يطبع السياسة في العراق. لكن عدم اتخاذ رئيس الوزراء، على مدى فترة طويلة، إجراءات ضدّ التهديد والتحريض هو الأمر الأكثر اشكالية لأنه ساهم في اتساع دائرة التغول الميليشياوي المتصاعد وازدياد فداحته ليس بإزاء شخص رئيس الوزراء نفسه فحسب، بل بإزاء كل الدولة العراقية والمجتمع، اللذين تقع على رئيس الوزراء مهمة الدفاع عنهما ضد التعدي والتغول.