بقلم: الدكتور سعد شاكر شبلي
يتشارك العراق وتركيا بقواسم مشتركة متعددة، منها ما يتعلق بعوامل التاريخ والجغرافيا والدين والحدود والمصالح الاقتصادية والتجارية، ومنها ما يتعلق بالعامل الكردي الذي يبقى من بين أهم العوامل والمتغيرات المؤثرة في علاقة أي من البلدين تجاه الآخر، وذلك ما يمكن ملاحظته في سلوك الحكومات العراقية، تجاه تركيا، منذ قيام الدولة الحديثة عام 1921، فيما يلاحظ أن سياسة تركيا الخارجية قد ارتبطت بشكل كبير بتحقيق مصالحها ومصالح حلفائها، خاصة بعد أن تبنى حزب العدالة والتنمية سياسة خارجية جديدة قامت على برنامج تنموي إصلاحي له تطلعات جديدة بعيداً عن الجدل الأيديولوجي من أجل إعادة تشكيل النظام السياسي بعد وصوله إلى السلطة في تركيا عام (2002).
لذلك يمكن ملاحظة أن العلاقات العراقية التركية قد تأثرت بمجموعة من المحددات لكلا البلدين التي برز فيها ما يلي :
1. المحددات الجغرافية: يتمتع كل من العراق وتركيا بموقع جغرافي متميز زاد من الأهمية الاستراتيجية لكل منهما، إذ لم تأتِ أهمية العراق الجيواستراتيجية من الموقع الجغرافي فقط، بل من التركيبة السكانية التي يتميز بها ، والقدرات البشرية والعسكرية أيضاً، كما يرتبط العراق وتركيا بحدود مشتركة تبلغ (380) كيلو متر، مما شكل أهمية أمنية كبيرة لتركيا، وتحدي كبير في الوقت نفسه، لانها تعد من أكثر الحدود غير المستقرة، فضلاً عن أن أهمية العراق جاءت من أهمية المنطقة التي يوجد فيها، وهي منطقة الخليج العربي ذات الأهمية الاستراتيجية للقوى الكبرى، بما تمتلكه من مؤهلات جيوبولتيكية واقتصادية، وأهمية خاصة في الاستراتيجيات الدولية، بسبب تميزها بثرواتها وموقعها الاستراتيجي المهم، فمنذ القِدَم ثمة دول عمدت الى السيطرة، والنفوذ على هذه المنطقة الحيوية خدمة لمصالحها الحيوية.
2. المحددات التاريخية : رغم كل ما يجمع العراق وتركيا من روابط تاريخية إلا أن الاختلاف بين العرب والأتراك ظهر مع مطلع القرن العشرين في معارضة العرب لحالة التخلف والحكم المطلق الذي تعرضوا له أواخر حكم الدولة العثمانية، وفي رؤيتهم للتقدم والحريات والدستور الذي شهدته تركيا الحديثة، ذلك أن العرب كانت حركتهم فكرية مدنية، في حين كانت للأتراك حركتهم الإجرائية العسكرية، ولم ينظم العرب أنفسهم نخبوياً في حزب أو حتى تيار تنظيمي ، فيما نجح الأتراك في تنظيم حركتهم، والبروز إلى العالم بمظهر القوة المعارضة، وقد تأثر العرب في أفكارهم بالفرنسيين تأثراً كبيراً، في حين كان تأثير إيطاليا كبيراً على الأتراك، وعليه ؛ فإن العرب تأثروا فكرياً ثم سياسياً، في حين تأثر الأتراك سياسياً ثم تنظيمياً.
ومع توالي تجارب أنظمة الحكم في تركيا، جاء نجاح تجربة حزب العدالة والتنميـة في جعـل النظام السياسـي في تركيا نموذجاً يلفت الانتبـاه، ليس لما ينص عليه نظرياً وإنما للتفاعلات التي نتجت عنه وللمفاعيـل التي يمكن أن ينتجها فيما لو تم تطبيق تجربتـه في أماكن أخرى على الصعيـد الإقليمي، بعد أن أصبحـت هذه التجربة تمثل النموذج الذي يرتكـز على ثلاث قيم ، هي : الديمقراطيـة والعلمانية والإسـلام.
3. المحددات الاستراتيجية: لم يأت أحساس قادة النظام السياسي التركي الذي تشكل عام ( 2002 ) بعد استلام حزب العدالة والتنمية السلطة في تركيا، إلا ليفصح عن حالة القطيعة مع دول الشرق الأوسط، بعد أن فضلت الحكومات التركية المتعاقبة الاندراج في السياسات الغربية في المنطقة، وأن تلك الحكومات سبق أن جهدوا مع تلك السياسات لاحتواء السياسات الإقليمية، وبخاصة منها حركات التحرر الكردية وحركة القومية العربية، في المرحلة التي كانت هذه الحركات توصف بالتقدمية والثورية ذات الدلالة السياسية البارزة، لا سيما بعد انضمام تركيا إلى حلف بغداد ( 1955 )، أو عند الدخول في الحلف السري مع إسرائيل الذي عرف باسم حلف المحيط.
ثم جاءت دائرة الاهتمام التركية الرئيسة لتمنح العراق والشرق الأوسط منذ أوائل ثمانينيات القرن العشرين، وهي الفترة التي شهدت فيها المنطقة تحولات رئيسة بدءاً بالثورة الإيرانية عام (1979)، والحرب العراقية الإيرانية عام ( 1980 )، والانقلاب العسكري فـي تركيا عام (1980)، والاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان ودخول العاصمة بيروت عـام (1982)، ومن ثم حدوث التحول بصورة أكبر إثر أزمة الخليج الثانية عام ( 1990 – 1991)، إذ تدخل الرئيس التركي (تورغوت أوزال 1989– 1993)، ومارس ضغوطاً من أجل سياسة تركية أكثر فاعلية في الشرق الأوسط، وما أقامه الرئيس ( سليمان ديميريل) خلال الفترة ( 1993 – 2000 ) من صلات مع الدول العربية وإسرائيل.
لذلك سعى قادة حزب العدالة والتنمية بعد توليهم السلطة في تركيا عام 2003 لجعل السياسة الخارجية التركية نحو منطقة الشرق الأوسط تراعي القيود التاريخية، والقيود الجغرافية، ووجدوا بأنه من الضروري الاهتمام بهذين القيدين عند وضع تفاصيل السياسة الخارجية، وحسب هذا التصور عمل هؤلاء القادة على أن تكون لتركيا علاقات قوية مع منطقة الشرق الأوسط الكبير الذي يشمل غرب آسيا وشمال أفريقيا، ومن ثم ضرورة تطوير العلاقات مع العراق.
وبذات الاتجاه أخذ القادة الأتراك ينظرون إلى التاريخ من خلال السعي لجعل علاقتهم متميزة مع المحيط الجغرافي، وذلك نظراً لما لها من فائدة كبيرة في العالم العربي عامة، والعلاقات مع العراق التي لابد أن تتسم بديناميكيـة خاصة، بحيث تكون تكاملية وليست تنافسية، لذلك يطالب الأتراك دوماً أن يكون هناك تعاون قوي بين الجانبين حسبما يفرضه التاريخ والجغرافيا، من خلال توظيف الإمكانات الكبيرة لتطوير علاقات خاصة على المستوى التجاري والاقتصادي.
من خلال كل ما تقدم جاءت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى بغداد وأربيل في 22 /4 / 2024 لتسلط الضوء على عدد من الحقائق الواقعية غير الجديدة، والتي أخذت تحظى بأهمية كبيرة بين الجانبين، وهذا ما تفسره المباحثات الموسعة التي ركزت على القضايا السياسية والأمنية والاقتصادية، والعلاقات الثنائية بين البلدين، وسبل تعزيز التجارة البينية، وتشجيع فرص الاستثمار وملف المياه. فبعد مرور 13 عاماً على آخر زيارة لفخافة الرئيس رجب طيب أردوغان حينما كان رئيساً للحكومة، يعود الآن وهو رئيساً للجمهورية التركية، في زيارة تستحضر تساؤلات حول الملفات التي يحملها في جعبته للعراق.
وقد تمخضت عن الزيارة مجموعة من النتائج، تتعلق بعدد من الملفات، وهي:
1. جرى توقيع اتفاق استراتيجي حول ملف المياه، تضمن العديد من النقاط ومن البنود.
2. احتوى الملف الثاني طريق التنمية، حيث جرت النقاشات خلال الزيارة بين العراق وتركيا بحضور وزيري النقل من دولتي قطر والإمارات، وتم عقد اتفاق رباعي للمباشرة بوضع أسس طريق التنمية.
3. اشتمل الملف الثالث، على الجانب الاقتصادي والتبادل التجاري.
4. الملف الأمني المتعلق خاصة بحزب العمال الكردستاني الذي يعتبر هاجساً كبيراً للجانب التركي وحصلت فيه ترتيبات كبيرة جدا خلال الفترة الماضية واللجان الأمنية المشتركة بين العراق وتركيا تعمل بصورة مستمرة وتم وضع استراتيجية وحلول.
5. هناك اتفاقا بين العراق وتركيا على وضع نفس المقاربة الأمنية بين العراق وإيران في مواجهة التحديات الأمنية المشتركة، حيث تم عقد اتفاق شامل بين العراق وتركيا لمواجهة التحديات الأمنية وبشكل يصب بمصلحة البلدين.
6. ملف المياه مع تركيا وهو ملف مهم جداً للعراق، وهناك ملف الأمن الذي يعد بالنسبة لتركيا مهم جداً وهما من القضايا الحاسمة، إذ إن العراق يعاني من شح المياه والجانب التركي يرى ضرورة العمل على الاستثمار الأمثل لها.