بقلم: موفق الخطاب
الموصل تحت المجهر (الصحة في غرفة الإنعاش!!)
لا غرابة في تدهور المنظومة الصحية في العراق حالها كحال جميع القطاعات الخدمية بعد إحتلاله وتدمير مؤسساته المدنية وبناه التحتية ثم عزل وتصفية وتشريد أغلب صفوته وكفاءآته ليتولى شؤونه بعد ذلك الفاشلون والرعاع وأنصاف المتعلمون , فالنتيجة كانت محسومة بالسقوط المدوي.
وكما قيل فليس الخبر كالعيان, فكل ما قد طرق مسامعكم وشاهدتموه عبر الفضائيات و وسائل التواصل الإجتماعي عن الواقع الصحي في العراق سادتي الأفاضل لا يمثل سوى النزر اليسير عن واقع مزري ينوء تحت وطأته الشعب العراقي المبتلى.
ولم يتسنى لي خلال زيارتي للعراق سوى الإطلاع على جانب محدد من الواقع الصحي في مدينة الموصل المنكوبة، وهو لا يعكس سوى عشر المعشار لواقع مهين و مؤسف تعيشه كل مدن العراق واقضيته ونواحيه وقصباته!
ولأن الموصل كانت ساحة صراعٍ وحربٍ ظالمة أقرب منها لحربٍ عالمية حيث خرجت منها ممزقة الأوصال مدمرة بالكامل، ومن ضمن صفحات التدمير التي طالتها هو إستهداف جميع مشافيها الكبيرة وبكل معداتها وأجهزتها وكذلك باقي مراكزها الصحية وحرق وتفخيخ وتفجير آلياتها وهجرة معظم كوادرها الطبية المتخصصة إما لكردستان العراق أو لدول الجوار، كما أنها غدت مدينة مقفرة تخلو من أي مبنى صحي متكامل يحقق الحد الأدنى من الرعاية الصحية !
وبعد مرور أربع سنين عجاف إنتشرت فيها الأوبئة وتضاعفت وتداخلت الأمراض و تلوث فيها الماء والهواء والزرع والضرع مما زاد بالنتيجة الضغط على النظام الصحي المترنح تماما مما طرحه أرضا بالضربة القاضية ولم يعد هنالك أمل في الوقت المنظور من نهوضه في ظل إدارة متخلفة وفساد مستشري وغدا حاله كحال المريض الميئوس منه ومسجّى في غرفة الإنعاش!
كل هذا السرد طرحته لكم سادتي لأهيئكم للدخول الى مسرح الأحداث لنطوف معكم سويا لنستقبل كرفانات ومباني بائسة كئيبة بديلة عن مشافيها العملاقة التي تحولت الى أثرٍ بعد عين ,مما تزيد من معاناة المريض بل قد تكون مسرِّعة في جلب أجله إن ساقه حظه العاثر يوما بالمرور قرب أسوارها أو المبيت إضطرارا تحت سقفها و جدرانها.
فبعد أن تم تدمير مشافيها التي شيدت في عهد الانظمة السابقة والتي لم يكن للنظام الحالي نصيب منها سوى إستبدال مسمياتها فضلا عن عجزهم عن تشييد أي مستشفى في الموصل وباقي المدن العراقية على غرار ماتم تشييده كمستشفى السلام والمستشفى العام والجمهوري ونحن على ابواب عقدين مضت من حكم خلاصة إنجازه أنه ( مزق وأجرم وأفسد و دمر وهجر وخرب المعمر!)
وأكثر الناس معاناة هم الطبقات الفقيرة المعدمة والذين يشكلون الغالبية العظمى من السكان ويتعذر عليهم التوجه للمستشفيات والعيادات الخاصة لأسعاراها الفلكية والتي لا يضبطها ضابط مهني بعد ان تداخلت التجارة مع الطب في أسواء عقد تزاوج شهدته الانسانية وسط موت الضمير وغياب تام للجان الرقابة الصحية!
أما طبقة ميسوري الحال والطبقة المتوسطة فلقد وصل بهم اليأس مبلغه فوجهتهم مع كل طارئ هو القطاع الصحي الخاص وإن اضطروا لاجراء عمليات كبرى فستكون وجهتهم كردستان او دول الجوار.
والآن أنقل لكم مشاهداتي من داخل ردهة الطوارئ وكرفانات في باحة مستشفى دار السلام :
فبعد معاناة لنقل المريض وبالسيارت الشخصية وخاصة مرضى القلب والحالات الحرجة من حوادث السيارات والحروق وغيرها جنبكم الله كل مكروه لغياب وندرة سيارات الإسعاف لينتقل المريض بعدها لمأساة أخرى بالبحث عن طبيب الطوارئ والطبيب الخافر ولينتظر ساعات حتى يصله الدور ليتفاجئ بالغرفة التي تغص بالمرضى ولا تكاد تميز صحيحهم من مريضهم و دون أي إحتراز لا من فايروس كورونا ولا من أشقاءه، والجو موبوء برذاذ السعال والعطاس ومخلفات المرضى ومرافقيهم دون إكتراث من قبل الجميع لتقف أخيرا أمام الطبيب المستجد والمرهق من تزايد المراجعين وهو لا يمتلك الخبرة اللازمة للتشخيص الاولي والذي يعتبر أهم خطوة لتوجيه المريض ليحيلك بعدها للكادر التمريضي وجميعهم متجهمين لا تشاهد في وجه أحدهم أي إبتسامة ولا إشارات تطمين ولا حتى كلمة طيبة تخفف من حال المريض وهو أحوج ما يكون لها!
ولا تسألني عن التعقيم فهو أبعد ما يكون عن هذه الأماكن الموبوءة، فالأرضيات وأغطية الأسرة والجدران ملطخة بالدماء الممزوج بالمخلفات ولا يوجد من يشرف ويوجه ويقوم بتعقيم الأدوات الطبية ولا تبديل ألاغطية مع فحص كل مريض!!!!
وبسبب ذلك فلن يسلم المريض ولا المرافق ولا حتى الكادر الطبي من فايروس كورونا ولا الأمراض المعدية شديدة الإنتشار.
لذا فقد بات عرف سائد لدى أهالي الموصل لمن يضطر بمراجعة تلك المقابر المتنقلة بأن يقال له للتندر ((رايح للموت برجليه!!))
لتبدأ بعدها مرحلة الماراثون بالبحث عن سرير لترقيد المريض عليه ثم حمالة السيلان ورأيت بأم عيني مرافقا يحمل السيلان بيده لوالده بعد أن عجز عن توفيره وآخر قد حمل والدته على ظهره لشحة الكراسي الطبية ونقالات المرضى وثالث قد إفترش الأرض بعد أن عجز عن الفوز بسرير ورابع قد توفت والدته من طول الإنتظار وهو في حالة هيستيرية !!!
أما البحث عن الوصفة الطبية فتلك طامة كبرى أخرى لخلو صيدلية المستشفى تماما من أي دواء ولا أبسط المستلزمات لتجد ضالتك عند أسوار المستشفى في صيدليات أو بسطات تضرب بها الشمس الحارقة وأغلبها أدوية مسربة من المذاخر الحكومية أو هي مستلزمات وأدوية مضروبة ومن مناشيء رديئة جدا , تصوروا أن مخازنهم خالية حتى من السرنجة (الحقنة) والكانيولا والمغذي والقطن والمعقمات وأغلب الظن أن هنالك سماسرة تسيطر عليها بنقلها من المخازن والمذاخر الحكومية إلى الباعة !!
اما عن السونار والرنين والأشعة والمناظير والعمليات وباقي الأجهزة الطبية والإخصائيين ومصرف الدم والمختبرات والتحاليل والكشف الدوري فلا تحدثني عنهم فتلكم غدت مصطلحات طبية لكلمات منسية مع زمن ولى وفات (وقول للزمان إرجع يا زمان) .
كل ذلك يحدث أمام أنظار الجميع من رئيس الوزراء و وزير الصحة وكتلته وحزبه والمحافظ ومجلس المحافظة ونواب الموصل ومدير عام صحة نينوى المسؤول الأول عن هذا التدهور والذي يؤكد أغلب من إلتقيتهم أنه لم يشاهده يوما سوى في الفضائيات، وجميعهم ملتزم الصمت وكأن فوق رؤوسهم الطير!
ولا أظن أن السيد مدير عام صحة نينوى وطاقمه الاداري ولا حتى الحكومة المتمثلة بوزير الصحة و وزارته واقسامها ودوائرها التفتيشية والرقابية لم يطرق سمعهم او يلفت انتباههم ذلك و بالتأكيد ان مثل هذه المآسي والمشهد موجودة ليست في الموصل فحسب بل في أغلب مشافي العراق, فإن أجابوا بالإستغراب والنفي فتلك مصيبة لأنهم قد ولوا امرهم لمن نكث بالأمانة وان علموا ولم يتداركوا حجم المآساة فالمصيبة اعظم .
ولا أريد أن أختم مقالي دون أن ألخص لكم من وجهة نظري الأسباب المؤدية لذلك ثم الحلول:
حقيقة الأسباب كثيرة ومتشعبة وعلى رأس ذلك هو الفساد المستشري وتولى الفاشلين إدارة الملف الصحي وغياب الوازع الخلقي والإنساني وعدم الشعور بالمسؤولية وغياب مبدأ الثواب والعقاب والمثل يقول من أمن العقاب أساء الأدب، فالموظف البسيط يراقب الأعلى منه وهكذا حتى يصل التدرج للمدير العام والوزير فإن إنصلحوا إنصلح الحال، وإن فسدوا فسد الحال وكما يقال إن كان رأس السمكة خايس فلا داعي لتقليبها ولا فحص ذيلها.
فالحل لا يتمثل بتشييد المباني و استيراد افضل الأجهزة والمعدات والأدوية و المستلزمات مع ضرورته فقبل ذلك نحتاج لإعادة تولي المهنيين نظيفي السيرة و اليد بعد عزل الفاسدين والمقصرين منهم وسوقهم إلى المحاكم مع إعادة النظر في التعينات و استقطاب الكفاءآت وتوفير الحماية اللازمة للكوادر الطبية من بطش وسطوة الأحزاب والطائشين من المليشيات..
العمود التالي//
سوط المرور يجلد المواطن بلا رحمة