بقلم: حارث الخطاب
أستاذ جامعي وباحث أكاديمي في مجال أمن الفضاء السيبراني
تعد الحرب على غزة واحدة من أكثر الصراعات تعقيدًا وتحديًا في العالم، لقد تطورت استراتيجيات الحرب الإلكترونية، وتكتيكاتها على مر السنين لتتكيف مع التحديات التقنية و التطورات العلمية الجديدة. وفي السنوات الأخيرة، أصبح استخدام الذكاء الاصطناعي في حرب غزة أمرًا بالغ الأهمية، حيث يساهم الذكاء الاصطناعي في تحسين قرارات القادة العسكريين، وتوجيه الأسلحة، والضربات بدقة أكبر، كما يعزز قدرة جمع وتحليل المعلومات الاستخباراتية، لغرض فرض هيمنتها العسكرية على مجريات الأمور و بالتالي تحقيق النتائج المرجوة من أستخدامها.
مفهوم الذكاء الاصطناعي
يعرف الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) و مختصرها (AI) على أنه علم من علوم الحاسبات، يهتم بدراسة، وتصميم، وتطوير الأجهزة والبرامج التي تقوم بمحاكاة الذكاء البشري في أداء المهام التي تحتاج إلى ذكاء وتفكير، وتحاكي قدراته في تعلم وتحليل البيانات واتخاذ القرارات الذكية المناسبة بدقة و فعالية أكثر. يستند الذكاء الاصطناعي على الحوسبة الذكية والتعلم الآلي والشبكات العصبية لتنمية برامج وأجهزة قادرة على القراءة وفهم اللغات البشرية، والتعلم من الخبرات السابقة، واستخلاص المعرفة من كميات هائلة من البيانات. كما يهدف الذكاء الاصطناعي إلى تطوير أنظمة تستطيع تحقيق مستويات عالية من الأداء في مجالات متعددة مثل التشخيص الطبي، والتنبؤ بالأحوال الجوية، وتحليل البيانات الضخمة، وتحسين العمليات الإنتاجية.
يهدف الذكاء الاصطناعي إلى تصميم وتطوير أنظمة ذكية قادرة على استيعاب المعلومات الكثيرة والبيانات الضخمة وتحليلها واتخاذ القرارات بطريقة ذكية وفعالة. يعتمد الذكاء الاصطناعي على تقنيات وأدوات حاسوبية متطورة مثل تعلم الآلة (Machine Learning)، والتعلم العميق (Deep Learning)، ومعالجة اللغة الطبيعية (Natural Language Processing)، والروبوتات الذكية (Smart Robots)، لتحقيق أعلى مستويات الأداء الذكائي .
تطور الذكاء الاصطناعي
البداية كانت مع عالم الرياضيات الإنكليزي آلان تورينغ (Alan Turing)، والذي يُعتبر الأب الروحي لعلم الحاسوب، عندما قام ببناء أول نظام محاكاة في الأربعينيات من هذا القرن لغرض فكّ شفرة الرسائل العسكرية الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، من خلال جهاز تشفير مستخدم في ذلك الوقت يسمى “إنيكما” (Enigma)، خاصة تلك الرسائل التي كانت ترسل بين سلاح البحرية وبين القيادات السياسية، وكانت التشفير بهذه الطريقة على درجة عالية من الدقّة بحيث لا يمكن اختراقه بالعمليات الحسابية البسيطة، وكان من أبرز إنجازات “تورينغ” اختراق تشفير “إنيغما” النازية، وذلك عن طريق نظام حَوسبي آلي يسمّى “القنبلة” (The Bombe)، حيث طور العالم “تورينغ” فكرة “آلة الحوسبة الشاملة”، والتي يمكن أن تحل الحسابات المعقدة، وقد عُرفت فيما بعد باسم “آلة تورينغ”، وكانت هي البدايات لما يعرف بالكمبيوتر الرقمي.
شكل (1): كان جهاز القنبلة عبارة عن آلة كبيرة تعمل بخوارزميات تورينج.
الصورة مأخوذة من بريتانيكا.
ومنذ عام 1951 كان تورينغ يعمل على عدد من الأبحاث والنظريات، إذ نشر “الأساس الكيميائي للتكوين” في عام 1952، واصفا جوانب من بحثه حول تطور الشكل والنمط في الكائنات الحية، لذلك يرى كثيرون أن بعض نظرياته أسست لما يعرف اليوم بالذكاء الاصطناعي .
تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري
تندرج تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري، في سياق استخدام تكنولوجيا المعلومات والأتصالات الحديثة لتحسين الأداء العسكري وتمكين الجيوش من تحقيق الاستراتيجيات الوطنية العسكرية بشكل فعال ودقيق . حيث يوفر الذكاء الاصطناعي قدرات تحليل البيانات الأستخبارية المتقدمة، وأتخاذ القرارات السريعة، والتحسين المستمر لقدرة القوات العسكرية على التكيف مع التغيرات السريعة في المعركة. و بالتالي يؤدي الى أستغلال هذا الجهد التكنولوجيي لتعزيز جاهزية القوات المسلحة وتحقيق التفوق العسكري المتميز في الميدان.
هذا ومن الجدير بالذكر، فأن أهم فوائد استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري، هي:
زيادة كفاءة الأسلحة والقدرة على الدمج بين الأنظمة المختلفة.
تقليل المخاطر والخسائر البشرية في المعارك.
تحسين قدرة الاستخبارات والتوقعات العسكرية.
وبالمقابل فأن هنالك العديد من التحديات والمخاطر في استخدام الذكاء الاصطناعي في هذا المجال، منها:
المسائل الأخلاقية والقانونية للاستخدام العسكري للذكاء الاصطناعي.
التحديات التقنية والأمنية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في العسكرة.
التدريب والتأهيل اللازم للقوات العسكرية لاستخدام التقنيات الذكية.
أما بالنسبة الى أهم تطبيقاته العملية منها، فهي:
1) تحليل البيانات العسكرية الضخمة.
2) الروبوتات العسكرية.
3) تطوير الأسلحة الذكية.
4) التخطيط الاستراتيجي واتخاذ القرارات.
5) تحسين الأداء الأمني والتعقب العسكري.
استخدام إسرائيل للذكاء الاصطناعي في حربها على غزة
كشفت صحيفة الغارديان البريطانية الصادرة بتاريخ الثالث من نيسان /أبريل 2024، عن مصادر استخباراتية إسرائيلية عن استخدام نظام “لافندر” (Lavender) في حربها على غزة، وتزعم أنه تم منح الإذن بقتل الأف المدنيين لملاحقة مسلحين ذوي رتب منخفضة من حركة حماس، حيث استخدمت حملة القصف العسكري الإسرائيلي في غزة قاعدة بيانات مدعومة بالذكاء الاصطناعي لم يتم الكشف عنها سابقًا، والتي حددت في إحدى المراحل (37,000) هدف محتمل بناءاً على صلاتهم الواضحة بحركة حماس، وفقًا لمصادر استخباراتية مشاركة في الحرب .
شكل (2): شريحة معروضة في معرض تجاري لأحد كبار قادة الوحدة 8200، تناقش نظام لافندر، الذي تم تصويره مع الأيقونية المميزة للشركات الناشئة وبالتعاون مع جامعة تل أبيب.
وأستمرت الصحيفة بالحديث عن استخدامهم لنظام الذكاء الاصطناعي المسمى “لافندر” (Lavender)، كما تزعم مصادر المخابرات أن المسؤولين العسكريين الإسرائيليين سمحوا بقتل أعداد كبيرة من المدنيين الفلسطينيين، خاصة خلال الأسابيع والأشهر الأولى من الصراع. حيث توفر شهادتهم الصريحة بشكل غير عادي و مسبوق، لمحة نادرة عن التجارب المباشرة لمسؤولي المخابرات الإسرائيلية الذين كانوا يستخدمون أنظمة التعلم الآلي (Machine Learning Systems) للمساعدة في تحديد الأهداف خلال الحرب على حماس طيلة الفترة الماضية والتي استمرت أكثر من ستة أشهر.
وذكرت صحيفة الغارديان إن نظام “لافندر” لعب دورًا مركزيًا و حيوياً في الحرب على غزة، حيث قام النظام بمعالجة كميات كبيرة من البيانات و الصور، لغرض تحديد العملاء “الصغار” المحتملين (عناصر من حماس على مستوى منخفض من المسؤولية في غزة) لاستهدافهم بسرعة كبيرة. و قالت الصحيفة إنه في مرحلة مبكرة من الحرب، أدرجت لافندر ما يصل إلى 37 ألف رجل فلسطيني تم ربطهم بواسطة نظام الذكاء الاصطناعي بحماس أو الجهاد الإسلامي في فلسطين، وعادةً ما يخصصون حوالي (20) ثانية فقط لكل هدف – للتأكد من أنهم رجال – قبل الإذن بالتفجير.
وكما هو معلوم، إن نظام “لافندر” تم تطويره من قبل قسم استخبارات النخبة في جيش الدفاع الإسرائيلي، الوحدة (8200)، والتي تشبه وكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA)، أو وكالة الاستخبارات الأمنية البريطانية والتي تدعى بمكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية (GCHQ) في المملكة المتحدة، هذا وقد تم استخدام نظام “لافندر” لأنشاء قاعدة بيانات لعشرات الآلاف من الأفراد.
وقال مصدران إنه خلال الأسابيع الأولى من الحرب، سُمح لهم بقتل العشرات بل المئات من المدنين خلال الغارات الجوية على مسلحين ذوي رتب منخفضة من المسؤولية في غزة. وقالت المصادر إن الهجمات على مثل هذه الأهداف يتم تنفيذها عادة باستخدام ذخائر غير موجهة تعرف باسم “القنابل الغبية” (Dumb Bombs)، مما يؤدي إلى تدمير منازل بأكملها وقتل جميع ساكنيها، وبالتالي يمكن أن يشكل تهديداً كبيراً للمدنيين العٌزل، وخصوصاً عند أستخدامها بكثافة نيرانية واسعة في المناطق المكتظة بالسكان مثل غزة.
لكن في الحقيقة، فان جيش الدفاع الإسرائيلي كان قد أستخدم أيضاً العديد من الأسلحة والقنابل الذكية (Smart Bombs) والموجهة عن بعد، وذلك بالأعتماد على تقنية التعرف على الأنماط وتمييزها (Pattern Recognition) لغرض التعرف على الأشخاص والأهداف المطلوبة لديها.
هذا ومن الجدير بالذكر، أن الحكومة الإسرائيلية كانت قد بدأت العمل على مشروع تكنولوجي ضخم يدعى مشروع نيمبوس “Project Nimbus” (بالعبرية: פרויקט נימבוס)، وهو مشروع حوسبة سحابية (Cloud Computing) يعتمد على أستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي (AI) للحكومة الإسرائيلية وجيشها، حيث أعلنت وزارة المالية الإسرائيلية في أبريل 2021، أن العقد يهدف إلى تزويد “الحكومة ومؤسسة الدفاع وغيرهما بحل سحابي شامل”، وبموجب العقد، ستقوم الشركات بإنشاء مواقع سحابية محلية “تحتفظ بالمعلومات داخل حدود إسرائيل بموجب إرشادات أمنية صارمة” .
شكل (3): مشروع “نيمبوس” الذي يساعد في جمع البيانات من كاميرات المراقبة والمكالمات الصوتية وتحليل تعابير الوجه والكشف عن المشاعر.
يتألف مشروع “نيمبوس” Nimbus من أربع مراحل مخطط لها:
الأولى هي شراء وبناء البنية التحتية السحابية،
والثانية هي صياغة سياسة حكومية لأدارة ولنقل العمليات إلى السحابة،
والثالثة نقل العمليات إلى السحابة،
والرابع هو تنفيذ العمليات السحابية وتحسينها.
وبموجب عقد بقيمة (1.2) مليار دولار، تم اختيار شركتي التكنولوجيا جوجل (Google Cloud Platform) وأمازون ( Amazon Web Services ) لتزويد الوكالات الحكومية الإسرائيلية بخدمات الحوسبة السحابية، بما في ذلك تطبيقات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي .
أن الغاية الرئيسية للمشروع ستؤدي إلى مزيد من الانتهاكات لحقوق الإنسان للفلسطينيين في سياق الاحتلال المستمر والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث أن هذه التكنولوجيا المتطورة ستمكن الحكومة الإسرائيلية من فرض المزيد من المراقبة على للفلسطينيين وتحركاتهم، وجمع البيانات غير القانونية عنهم، فضلاً عن تسهيل توسيع المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية على الأراضي الفلسطينية .
في حقيقة الأمر، أن هذه العقود المبرمة مع الحكومة الإسرائيلية لبيع التكنولوجيا الخطيرة تشكل جزءاً من نمط مقلق من عسكرة الفضاء الرقمي (Militarization) والتي يمكن أن يكون لها عواقب بعيدة المدى في التطبيقات العسكرية المعتمدة على تقنيات الذكاء الاصطناعي، من حيث المراقبة الصارمة لتحركات الأشخاص ومعرفة خصوصياتهم، وجمع وتحليل بياناتهم الشخصية الخاصة بهم، ومن جهة أخرى، انعدام الشفافية وتجنب الرقابة على تلك التطبيقات والبرامج الذكية.
كما أن الحكومة الإسرائيلية كانت قد بدأت بأستخدام برنامج (Gospel AI)، وهو نظام للتعلم الآلي قادر على تحليل كميات هائلة من البيانات لإنشاء أهداف هجومية محتملة، ومحاط بالسرية. ولم تقدم قوات الدفاع الإسرائيلية سوى القليل من التفاصيل حول هذا البرنامج الذكي، حيث أن قدراته و مميزاته الكبيرة لا يمكن إنكارها، من حيث نظام التعرف على الوجوه (Face Recognition system)، والتصنيف الآلي للصور، وتتبع الأشياء، وتحليل المشاعر، وغيرها من تطبيقات و أنظمة الذكاء الأصطناعي.
ومن الجدير بالذكر أيضاً، أن جيش الدفاع الإسرائيلي بدأ بتطبيق البرامج الذكية في نظام القبة الحديدية الإسرائيلي للدفاع الجوي، حيث تمكن النظام من رصد وصول المقذوفات و تمييزها، ويحدد طبيعته ووجهته والأضرار المحتملة الناجمة عنه، و طرق معالجتها بأقل الخسائر الممكنة، والذي تم أستخدامه في التصدي للهجوم الأيراني الصاروخي الكبير على إسرائيل.
لذلك صار واضحاً للعيان، من أن الحكومة الإسرائيلية قد نجحت في “تطوير وطرح حلول بواسطة الذكاء الاصطناعي لمهام مثل الاستطلاع الجغرافي المكاني، والعمليات باستخدام أنظمة ذاتية التشغيل، والتدريب العسكري، والحرب الإلكترونية”. و بالتالي فقد أثار استخدام الذكاء الاصطناعي في الصراع في غزة العديد من التساؤلات. ومع سقوط أكثر من 30 ألف ضحية فلسطينية، بما في ذلك العديد من النساء والأطفال، فإن دور استهداف الذكاء الاصطناعي في هذه الوفيات لا يزال مجهولاً. ويطالب النشطاء بالشفافية، مشيرين إلى الأخطاء المحتملة التي يمكن أن ترتكبها أنظمة الذكاء الاصطناعي، ويجادلون بأن نظام الاستهداف السريع الذي يعتمده الذكاء الاصطناعي قد سمح لإسرائيل بقصف أجزاء كبيرة من غزة .
وبينما يتصارع العالم مع الواقع المرير للذكاء الاصطناعي في الحروب، دعونا لا ننسى المدنيين في غزة، الذين أصبحت حياتهم على المحك. إن مأساتهم هي شهادة على الاستقلالية القاتلة التي تهدد الآن بإعادة تعريف طبيعة الصراع وقيمة الحياة البشرية.