بقلم: هيفاء غيث
أكدت الدراسات والأبحاث القائمة على دراسة السلوك البشري ، أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، يسعى دائما الى الاختلاط الجماعي والاندماج مع بيئته المحيطة به والتفاعل معها، ليصنع المجتمع على اختلاف مكنوناته من “عرق، جنس، دين، وعمر” تجمع بينهم روابط القيم والأخلاق، إلا أن القيم الإنسانية النبيلة شهدت تدهورا واضمحلالا كبيرا في ظل الغزو الفكري الذي نشهده داخل مجتمعاتنا والذي أدى بدوره إلى إعادة إنتاجها وتشكيلها.
يستمد الإنسان القيم الأخلاقية والقواعد التي يتعامل بها مع أفراد مجتمعه وكل ما يحيط به من عدة مصادر مختلفة ولعل أهم هذه المصادر هي الدراسات الفلسفية والأديان السماوية على اختلافها، حيث يأتي الدين كأول مصدر تشريعي للقيم النبيلة، وآخر هذه الأديان هو الدين الإسلامي الحنيف الذي أتى به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في رسالته السماوية والذي ارتكز على مكارم الاخلاق، حين قال “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” داعيا الإسلام الى تكريم الفرد وتهذيب أخلاقه وإرشاده الى طريق الحق والسلام.
ان الرسالة المحمدية ، كان هدفها تحديد العلاقة بين الأفراد من جهة، ودعوة الأفراد لاعتناق قيم التسامح واحترام الآخر والابتعاد عن الرذيلة وجميع المفسدات من جهة اخرى، حيث اجتمعت الفلسفة مع الدين في هذا السياق، فمن أهداف الفلسفة البحث عن الأفضل في حياة الإنسان والارتقاء به لعوالم الخير ، بعيداً عن الشر ، أي دنيا الفضيلة لا الرذيلة ، إلا أن عصرنا الحالي شهد انحداراً أخلاقياً و قيمياً شديدا، فأصبح الإنسان سجين غرائزه باحثاً عن اللذة والمتعة بأي وسيلة، بدون ضابط أو رادع، كما أصبحت النزعة العدوانية سائدة في المجتمع، كخطاب الكراهية، والعنف والدم بسبب أو بدونه، وبات التعبير عن رفض الواقع المعيشي أو الرأي المخالف بسلاح العنف اللفظي والمادي، فأصبحنا نشاهد أبشع الجرائم في وضح النهار وأعقاب الليل.
وتجاوز انحدار المنظومة الأخلاقية جميع الحدود وعلى جميع الأصعدة، فشهدناه في كل مكان بالمجتمع، في الأماكن العامة، في المدارس، في الجامعات والمستشفيات، ولا سيما في العالم الافتراضي المتمثل بمواقع التواصل الاجتماعي.
فقد فسدت الأذواق وأصبح الإعلام يقدم ألوانا من اللهو والفساد يتذوقها البعض على أنها ثقافة وحضارة وفن وارتقاء، واستهدفت المرأة بشيء من التخصيص فتجاذبتها دعوات التسفيه والتغريب، ليكون المقياس في نجاحات البشر فاسدا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.. والناجح فيه هو الأشد انحرافا وفسقا.
وبعد استهداف المرأة مصنع العطاء في المجتمع الشرقي ، فتستهدف الأسرة وتستهدف مجتمعاتنا لأجيال متتالية، بالإضافة الى استهداف الشباب والأطفال يوميا ببرامج هدامة تبث ببهرجة تلفت الأنظار، هدفها الأول الغزو الفكري لعقول ابناءنا وعقيدتهم واشغالهم عن أهم الأمور وأنفعها والرمي بهم في حفر الشهوات والملذات ، فيغرسون مفاهيم لم تعرفها مجتمعاتنا من قبل بل ترفضها، ويحقنون ثقافة لا تمثلنا ولم تكن يوما مقياسا لرقي الأمم.
إن أزمتنا الأخلاقية قد باتت خطرا محدقا بنا، ومن الخطأ أن نجعلها على هامش أزمات الأمة اليوم، بل هي محور أزماتها وسبب استضعافها واندثارها، وعلاج هذه الأزمة هو طريق عودتها ونهضتها ومقياس حضارتها ورقيها…
وكما قال الشاعر أحمد شوقي:
“إنما الأمم الأخلاق ما بقيت…فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا..
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه…فقوم النفس بالأخلاق تستقم..
إذا أصيب القوم في أخلاقهم…فأقم عليهم مأتما وعويلا”
فإن لم نتدارك أنفسنا وأسرنا ومجتمعاتنا بالحرص على قيمنا السامية، قيم عروبتنا وديننا والتمسك بها، إن لم يتدارك كل راع رعيته لحفظها من هذا الخطر الداهم، فلن نحلم بتجاوز مرحلة الاستضعاف التي نحن فيها اليوم، وسنغرق في غياهب الانحلال الاخلاقي.