بقلم: امير المفرجي
تُشكل الانتخابات في المجتمعات المتحضرة، أحد أهم شروط إرساء أسس الديمقراطية والتمدن. وهو أسلوب حضاري لتكريس مفهوم تداول السلطة من خلال إتاحة فرص التنافس والتحالف الشفاف بين الأحزاب والتيارات السياسية الوطنية، في محاولة لتجديد النخب في النظام السياسي العام، عن طريق الاحتكام المباشر إلى صناديق الاقتراع، حيث يدعى المواطن إلى الإدلاء الحر بصوته، لمن يراه جديرا بمسؤولية حفظ سيادة الدولة، والنهوض بأوضاع البلاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وخلق مناخ من الاستقرار والسلام الاجتماعي.
بيد أن هذا الأسلوب الحضاري أخذ مسارا خطيرا في العراق، بعد أن أصبحت العملية الانتخابية، مصدرا للاغتناء والتبعية لدول الجوار، وشراء ذمم الأميين والأبرياء، والمتاجرة ببؤس الفقراء ودماء ضحايا الإرهاب المتطرف، لتحصين المصالح الطائفية والفئوية.
وعلى الرغم من عدم ثبات جدوى الانتخابات المقبلة في حل أزمات العراق، مع بقاء وتبادل الوجوه والأدوار والمواقع نفسها، إلا أن الصراع والتهافت على القوى الإقليمية المسيطرة على البلد، يشهد تصاعدا، بين الشخصيات السياسية للحفاظ على هيمنتها على السلطة للمرحلة المقبلة، غير مبالين بما ستؤول إليه حالة الصراع الأمريكي ـ الإيراني وأثرها في قدرة النظام الإيراني على التمسك بمواقفه في العراق، ناهيك عما سيقرره الناخب العراقي، بعد ان انكشف زيف السياسة الإيرانية وفشلها في إيران نفسها.
وفي خضم هذه الثقافة الغريبة التي يُعمل بها في العراق، ترجم أسلوب استحواذ الأحزاب الطائفية على المناخ الوطني وتحويله إلى فضاءات للدعاية السياسية الفئوية المرتبطة بمصالح الدول الإقليمية المارقة، مدى غياب الحس الوطني لزعماء هذه الأحزاب السياسية، وفقدانهم للذاكرة في ما يتعلق بما حدث ويحدث في بلدنا منذ 2003 ولحد الآن، نتيجة للتدخل الخارجي في الشؤون الداخلية العراقية.
لا شك في أن نتائج الانتخابات المقبلة، ستحددها مواقف الدول المؤثرة على العراق، إذا أخذنا بعين الاعتبار الموقف الإيراني، الذي يعتبر من أكثر العوامل تأثيراً في طبيعة التحالفات السياسية الشيعية في العراق، في اختيار شكل النظام السياسي، حيث يأمل النظام الإيراني من خلال تأثير قاسم سليماني، وبدعم حقيقي من علي خامنئي، تبني واختيار شخصية لرئاسة الحكومة العراقية المقبلة، على الرغم من صعوبة تحقيق هذا الهدف، بعد التطورات الأخيرة التي شهدتها الساحة الإيرانية. في المقابل يرى كل من له بصيرة وطنية، أن موقف الولايات المتحدة الأمريكية لا يقل نفوذاً في موضوع اختيار رئيس الحكومة المقبل في بغداد، لاعتبارات شخصية وسياسية ترتبط بمستقبل استمرار التواجد الأمريكي في الشرق الأوسط، وسعي الإدارة الأمريكية الجديدة في سياستها لإضعاف النظام الثيوقراطي في إيران، تمهيدا لإسقاطه من قبل المعارضة الإيرانية. وهذا ما قد يدفع إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى إعادة ترتيب حساباتها من جديد في العراق، من خلال انتهاز فرصة الانتخابات، لتحجيم الدور الثيوقراطي وإظهاره على أنه نموذج فاشل لا يحظى حتى باحترام الغالبية من الشعب الإيراني، نتيجة للاحتجاجات الأخيرة، التي أشعلت مدن الجمهورية الإسلامية الثائرة ضد الفساد والفقر الناتجة من تداعيات تدخل نظام الولي الفقيه في شؤون دول المنطقة.
ونتيجة للتغير المحتمل المقبل في ميزان القوى السياسية في إيران، وزوال هيبة ولاية الفقيه في عقر داره، أصبح من المحتمل أن تنتقل هذه الحالة إلى العراق، خصوصا أن حالة الفساد والسرقة بلغت ذروتها في ظل أحزاب الدين السياسي، التي تتولى زمام السلطة، وهذا ما قد يربك الشخصيات السياسية العراقية القريبة من طهران من تطور الاحتجاجات الشعبية المناهضة للنظام الإيراني، ويدق ناقوس خطر احتمالات إنهاء دور طهران من المشهد السياسي العراقي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الأسباب التي دفعت الأحزاب والشخصيات السياسية القريبة من طهران في العراق للتغيير من الانتماء المذهبي إلى الانتماء الوطني، جاءت نتيجة لحالة الارتباك، وعدم الارتياح مما حصل في المدن الإيرانية، بعد المعطيات الجديدة للانتفاضة التي تعتبر نقطة تحول رئيسية، قد يُفقد النظام الإيراني بسببها القابلية على المناورة في الخارج، وهذا بحد ذاته يمثل خطوة إيجابية لمستقبل العراق.
من هنا بات من المؤكد، ان اعتماد الشخصيات السياسية المشاركة في الانتخابات التشريعية المقبلة على الدور الإيراني أشبه بعملية انتحار سياسي، إذا أخذنا بعين الاعتبار تصاعد غليان الشارع الإيراني، ورفضه لنظام الولي الفقيه، واستمرار العقوبات الدولية من جهة، واحتمال انتقال هذه الحالة إلى العراق، بعد ان أيقنت غالبية العراقيين فشل التجربة الطائفية المستوردة لبلادهم، في الوقت الذي يقمع نظام الولي الفقيه شعبه الإيراني الذي طالب بحقوقه في العيش الكريم.
من المُرجح أن تساهم التحالفات الجديدة مع قادة المليشيات العسكرية، في تعقيد المشهد السياسي المقبل، من خلال زيادة حدة الانقسام في حزب الدعوة الحاكم، ودفع المرشح الأوفر حظا في الفوز للوصول إلى حالة أشبه بالانتحار السياسي، من خلال وأد برنامج رئيس الوزراء العراقي الانتخابي الوطني العابر للطوائف، الذي وعد به العراقيين رغم الظروف المواتية له، خصوصًا بعد الانتصارات المهمة على تنظيم «داعش» وعلاقاته المتميزة مع الأسرة الدولية، ناهيك عن رغبة الشارع العراقي بجميع أطيافه ومكوناته في التصويت للرجل المناسب القادر على أنهاء محنة العراقيين، وإرجاع السيادة بعيدا عن تدخل الآخرين.
يبدو ان النخبة السياسية التي تحكم العراق لم تتعظ بعد بالنتائج والعبر التي خلفتها عملية غزو العراق في 2003، التي ترجمت بامتياز بداية عملية انتحار القوى السياسية العراقية التي استعانت بأمريكا وإيران، وإذا بهم يقعون ويوقعون العراق وشعبه تحت نير الاحتلالين الأمريكي والإيراني.