نحن نغرق في مشاكلنا
د.حيدر سلمان
مقدمة بسيطة
من منا لايعلم مايحدث في وسط وجنوب وغرب وحتى شمال العراق من مشاكل عشائرية كبيرة، بالتاكيد التركيز فقط على الجنوب فيه مجانبة للواقع ومخالفة للصواب فكلنا نعلم ان هناك صراعات عشائرية في المناطق الشمالية والغربية، حتى ان بعض العشائر اعلنت ولائها، وقاتلت الى جانب “داعش”، وحملت السلاح وقتلت حتى من ابناء اقرب الناس المجاورة لها دونما رقيب او رادع اخلاقي وهو ماذكرناه في عدة محافل واماكن وادرجناه في خانة ال (العيب الذي سيلاحقهم)، لكن ما ساكتبه اريد فيه القاء الضوء كناقد ومراقب للاحداث في الوسط والجنوب وتحديدا البصرة وبجزء اقل العاصمة بغداد حيث ينقل الاعلام معاركهم العشائرية بين الحين والاخر، على إن ما ساذكره موجود في باقي المحافظات ولكن بنسب اقل.
البصرة تاريخيا عانت الكثير من الاحتلالات، وكانت بعد كل احتلال تعاني من انتشار قبائل من يسمونهم اصطلاحا (المعدان)، وهم بغالبيتهم يستوطنون شمال البصرة وجنوب ميسان وجنوب ذي قار، ومركزين في اماكن غالبيتها حول وداخل مناطق الاهوار وبساتين تلك المناطق القريبة عليها، وكباقي العراق فالبصرة وسكانها سليلة حضارات ما بين النهرين من سومر، واكد، ولكش، وبابل، الى العهد العباسي، في ماصيها ولكن القارئ اول شعور يعتريه عند سماع هذا الماضي العريق؛ مع الاسف ان تكون هذه بصرة الفراهيدي والجاحظ وابن الهيثم والسياب، ورابعة العدوية، ومالك ابن انس، واحمد مطر، الخ …
وعند سؤالك عن سبب التغيير في حاضر البصرة عن ماضيها يجيبك اغلب سكانها، ان هناك تغييراً ديموغرافياً حدث نتيجة ظاهرة النزوح اليها من عدة محافظات، حتى اكدت وزارة التخطيط ان نسبة النزوح اليها سنويا قد يصل الى 8.7 % وتعد الثانية بنسبة النزوح اليها بعد بغداد التي وصل اليها النزوح الى 13.2%، وهي نسبة عالية كافية لتغيير سكانها الاصليين بمرور الوقت، حيث كان سكانها 3.8 عام 2011 في حين وصل سكانها عام 2014 الى 4.7 مليون نسمة بنسبة زيادة كبيرة.
المعروف عن البصرة بانها ذات طابع حضري بغالبيته حيث الرقعة الحضرية فيها ٧٦٪ حسب الاحصائيات من وزارة التخطيط حتى ان اقضيتها غدت مراكز مزدهرة بل وبعضها طالب اعلانه كمحافظات، ولكن نتيجة ما عاناه العراق كما ذكرت من احتلالات متكررة يجعله عرضة للضعف الامني، والعشائر من اكثر تلك المشاكل التي يعانيها دوما، والامثلة واضحة وصريحة كما حصل بعد سقوط نظام صدام حسين، واحتلاله من قبل الولايات المتحدة الامريكية، حيث اجتاحت بعض تلك القبائل المحافظة التي تقع اقصى جنوب العراق، والتي تتميز بكثرة اموالها، وتميز موقعها، وتنوعها الاثني والايديولوجي مطمعا لتلك العصابات العشائرية ونذكر منها انذاك “الكرامشة والشغانبة” واخرين، وباقل من ذلك “بني سكين، البوبصير، بيت رويمي” واخرين، حيث انتشرت حالات الخطف، والمساومات، وسرقات منظمة، وتجارة المخدرات، وتسليب السيارات، وسيطرة على الاراضي، وكثير من الامور الاخرى.
زد على ذلك هناك عشائر باكملها مرتحلة من محافظات اخرى وجدت البيئة المناسبة للحصول على الاموال بشتى الوسائل، غالبيتها باختلاق المشاكل والمساومة على ذلك وجزء كبير من تلك العشائر من محافظة ميسان وجزء اقل من الناصرية وبضعة من المحافظات الاخرى، وممكن ذكر بضعة امثلة منها بني لام وال بومحمد والبزوني والخفاجي والبيضان والسودان الدراجي والفرطوسي والسعيدي والساعدي والحسني والحسناوي والخيكان واخرى كثيرة لاتسعفني بها الذاكرة، وبالتاكيد ليس كلهم ولكن البضعة القليلة يكفي ان يعكر الصفو العام.
لابد من ذكر اسم بعض العشائر التي يتداول اسمها مؤخراً في معارك تقريباً سيطرت على الحياة العامة، واستخدمت الاسلحة بإفراط، بل ان بعض تلك العشائر يملك اسلحة حتى تصل الى الثقيلة، وكلنا سمع بمعارك “الحمادنة والبطوط و بني مالك وجزئيا تميم وال بوعامر والحلاف و المكاصيص والسعدون والفداغ والدوسري والعيدان والشريفات وربيعة” وتسميات اخرى كثيرة لايسعني هنا ذكرها، ولكن سأحاول القاء القدر الممكن من الضوء، حيث ان ذكرها يحتاج لمعجم لوحده، ولكن الثابت ان ليس كل ماذكرت من العشائر متشددة بنظام قبلي مسلح؛ بل ان بعضها اضطر للتخندق خلف ما يملك من امكانيات بسبب تسلح وتخندق الاخرين واستخدامه للعنف، ما دفع الاخرين لذلك ايضا، لتكتمل حلقات العنف والسلاح السائب دونما رادع او دون خوف او وجل.
نعيد الذاكرة قليلا
العشيرة بشكل عام ساهمت بالتاريخ ببناء الدولة وتطلعاتها واغلب ثوراتها، وخير مثال ثورة العشرين، وكان لها دور بصنع قوانين رادعة عند غياب الدولة فهي ليست سيئة بالمطلق كما انها ليست جيدة بالمطلق، ولذلك استخدام مصطلح العشائرية في العراق عموما يحمل ذات الصفتين (الجيد والسيء)، فعندما نريد ان نعلي من شأن احد الناس ونثني عليه بتعابيرنا بلهجتنا العامية نطلق عليه تسمية (ابن حَمولة بفتح وتشديد الحاء)، وفي ذات السياق عندما نريد ان نلقي صفة المدنية سوءا عن احدهم تقول عنه “عشائري او قبلي” او ما الى ذلك.
وهنا اذكر ان العشائرية بشكل عام كان الاعتماد عليها الى نهاية الثمانينات كان شبه معدوم ومعتمد باغلبه على استخدام الالقاب ليس اكثر من ذلك، لكن بعد حرب الخليج الاولى بين العراق والمجتمع الدولي وعلى رأسها الولايات المتحدة نتيجة احتلاله الكويت، وما تلاه من تفكك مجتمعي وضعف لسلطة الدولة فان النظام بقيادة صدام حسين انذاك لجا الى الاعتماد على العشائر وسلح الكثير منها تحت مسمى “تسليح العشائر” محاولة منه للتقرب لتلك العشائر لسحق التمردات وزيادة الموالين له وسياسة “فرق تسد” وفعلا اصبح الكثير من شيوخ العشائر موالين للدولة والبعض اصبح معارضا لها؛ مثال ذلك قرب الشيخ صباح المالكي وشيوخ السعدون من صدام حسين وهو رئيس النظام آنذاك، والذي كان اصلا عشائرياً بحتاً من “البيجات” وتحديدا “البوناصر” من صلاح الدين التي يغلب عليها ايضا الطابع العشائري، على النقيض كثير من الشيوخ اصبحوا ضد النظام وتم تصفيتهم كما حدث مع الشيخ كنعان التميمي وبعض شيوخ العيدان حيث لجأت الدولة باجهزتها الرسمية الى اغتيالهم.
واستمرت العشائر بعد منتصف تسعينيات القرن الماضي نتيجة تردي الحالة العامة نتاجا عن الحصار، تزداد قوة وسلاح وبأس في سرد بسيط ذكرته، ولكن مفترق الطرق حدث بعد سقوط النظام بتدخل خارجي من الولايات المتحدة وبريطانيا بشكل مباشر واعتمدت في تشكيل قوات محلية على العشائر والاثنيات وكلنا يذكر اختيار القوات البريطانية في البصرة الشيخ “مزاحم التميمي” محافظا مؤقتا للمدينة كونها احدى اكبر العشائر وتنازله عن ذلك بنفسه بعد فترة وجيزة ادراكا منه ان اختيار شيخ عشيرة لمنصب محافظ مؤقت يزيد الهوة بين العشائر ويزيد التخندقات وكان موفقا جدا بخطوته تلك.
وبعد هذا الايضاح التاريخي، يجب علينا اكمال الحاضر حيث اصبحت العشيرة او القبيلة مزدهرة جدا في النظم الانتخابية التي تلت سقوط النظام بعد 2003 وكلنا للان نلاحظ ان اغلب من يتسنمون منصب النواب في المجلس النيابي هم بين شيوخ العشائر او من يساندهم من عشائرهم.
ماذا بعد السرد التاريخي البسيط عن البصرة وعشائرها
انا واثق تماما انني نسيت ذكر اغلب العشائر ولكن في الوضع الحالي في الجنوب والبصرة تحديداً يستحق ان نطلق عليه “اننا نغرق في مشاكلنا”، حيث تفاقمت المشاكل العشائرية واصبحت هاجساً يؤرق الكثيرين، ولاسيما الطبقة المثقفة والطبقة التي تريد العيش بمدنية، حيث كثيرا ما نسمع ان يكتب على دور الاطباء والشخصيات المهمة “مطلوب دم”، كما نسمع بحروب ونرى فيديوهات تكاد تقارن بالحروب بين الدول، كما تداول قبل فترة ان احدى العشائر استخدمت الطائرات الصغيرة المسيرة (الدرون) في حربها مع العشائر الاخرى وكثيرا ما سمعنا بمعارك “الحمادنة والبطوط” حتى غدت قصص التاريخ عن الحروب العشائرية من “حرب البسوس الى الغبراء” بسيطة جدا لما رايناه وسمعناه وما يتلوه من هجرة للكفاءات والاطباء والعلماء والمثقفين نتيجة هذه النزاعات.
ما هو تصرف الدولة تجاه النزاعات العشائرية، واين هي؟
اقتصر جهد الدولة ومعظم اجهزتها الامنية بعد ال 2003 على ما ورثته من النظام السابق حيث تعودت انهاء تلك النعرات والنزاعات بإرسال قوات عسكرية، واستئصال تلك التمردات او الاكتفاء بصفة المراقبة وفي كلتا الحالتين لا نرى تحسناً بقدر ما نرى تهدئة وتاجيل للحلول وافضل انواع التاجيل عن طريق التوسط من طرف ثالث للحصول على هدوء ولو لوهلة لا اكثر.
ما هي الحلول المستدامة؟
صحيح ان الحلول العسكرية او الشرطوية ضرورية هنا لكن لابد من التفكير بحلول دائمة عن طريق التشريعات، والتثقيف، والتعليم، والتوعية، ومحاربة الامية، وتعزيز القيم الاجتماعية، والعمل على نشر الرقعة الحضرية (بشرط ان تكون حضرية وليس فقط اسم دون مسمى)، وكلا الامرين يحتاج جهد مدني عالي ومبتكر، يفوق كثيرا الجهد العسكري، وملفه شائك وكبير، ولكنه حتما يقوم على تعليم احترام الانسان وتطبيقه، وهو ما تذوب فيه القبلية وكل الالقاب، كذلك اعادة الاستثمار في الارض من اجل الزراعة، لان احد اهم اسباب الاصطفاف القبلي هو فقدان الفلاح للأرض، والعمل والتعليم كذلك، وهو ما يؤدي بطبيعة الحال الى التخندق العشائري، ومن لم تكن عشيرته تجاري الاقوياء، بالتأكيد فالتوجه نحو المليشيات اقرب الطرق للحصول على حماية وعمل ودرع مجتمعي في بيئة مجتمعية لا تؤمن بغير القوة سبيلاً للعيش.