مسألتان أساسيتان في المسار السياسي وبوصلته لا يمكن تجاهلهما أو إسقاطهما من الحساب عندما يتعلق الأمر بفهم جذور تلك الهجمة التي تصدرت على مستوى حكومة اليمين الإسرائيلي من وزراء أساسيين في تلك الحكومة ضد وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي حصراً، بعد ما اقترب في آخر تصريح دبلوماسي له قبل استقبال نظيره الأمريكي أنتوني بلينكن ولأول مرة، من ملامسة الدعوة المثيرة للجدل التي قدمتها لمحكمة العدل العليا حكومة جنوب إفريقيا.
المسألة الأولى أن اهتمام ثلاثة وزراء على الأقل في حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرفة بالشغب على وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، واتهامه مرة باللا ساميه ومرة أخرى بالتصعيد ضد إسرائيل، لا يؤشر فقط على الأزمة الباطنية التي لم تعد صامتة كما كان الوضع والمشهد في سنوات سابقة بين الأردن وحكومة إسرائيل الحالية، لكن أيضاً على التفاعل وتبديل في قواعد الاشتباك السياسي والدبلوماسي لتلك الأزمة، وعلى نمو مطرد لها خلافاً لأنها قد تصل إلى مستوى التعاكس الاستراتيجي تماماً في الأهداف والمصالح، في رأي الأمين العام لحزب جبهة العمل الإسلامي، أكبر أحزاب المعارضة الشيخ مراد العضايلة، وحتى في رأي سياسيين كبار من بينهم رئيس الوزراء الأسبق علي أبو الراغب، الذي لم يتردد عندما استفسرت منه «القدس العربي» قائلاً إن مصالح الأردن الدولة والشعب اليوم في اتجاه، وما تفعله حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة بوزرائها من شريحة البلطجية، في اتجاه معاكس تماماً.
تلك القناعة تزداد وسط السياسيين الأردنيين بأن كل المسارات التي كانت تسمى بالتكيف مع اليمين الإسرائيلي أو الحرص بعيداً عن الاشتباك معه وضده على المصالح الوطنية الأردنية، أغلقت الأبواب أمامها. ثمة دلائل تنمو وتزحف في هذا السياق، لا تبدأ مع تصريح الوزير الصفدي بخصوص دعم قضية «جنوب إفريقيا» بل تؤكد تعاكس الموقف والاعتراض، لا بل الارتطام القوي أردنياً بخيارات يمين إسرائيل، بدلالة الخطاب المؤثر الذي ألقاه الملك عبد الله الثاني ظهر الإثنين في مواجهة النصب التذكاري لضحايا الإبادة الجماعية في رواندا.
في رواندا وحصراً أمام نصب الإبادة الجماعية، أدلى الملك بخطاب مؤثر تضمن «تقمصاً سياسياً» وإسقاطاً على ما يجري في قطاع غزة اليوم، وقال: «ينبغي التمسك بإنسانيتنا حتى نتجنب الوقوع في الهاوية» ثم سأل: « كيف يمكن للعدوان والقصف ضد أطفال غزة أن يؤسس للسلام؟». عملياً، تلويح الوزير الصفدي بدعم مسار جنوب إفريقيا، ثم كلمات الملك في صرح كيغالي الرواندي، تأسيس مباشر لحالة التعارض الأردنية ـ الإسرائيلية القابلة للتطور بأي وبكل الاتجاهات.
الأزمة بين طاقم نتنياهو وعمان بدأت تؤثر حتى في تلك المساحة المنفردة التي أصبحت غامضة في العلاقة ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والأردن أيضاً؛ لأن واحدة من إشكالات الدبلوماسية الأردنية ـ وقد قيل ذلك صراحة قبل يومين للوزير بلينكن عندما توقف في محطة عمان- هي تلك التي تشير إلى أن الغطاء الأمريكي للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وعلى الضفة الغربية أصبح إلى حد ما قد ينظر له لدى الشعوب العربية على الأقل باعتباره مشاركة حيوية في هذا العدوان.
المسألة الثانية التي ينبغي ألا تسقط من الحسابات قد لا تقل أهمية عن الأولى، لكنها تخص هذه المرة التفاعلات الداخلية النخبوية الأردنية، فالحملة الشرسة ضد الوزير الصفدي في تل أبيب هذه الأيام التي تصدى لها بنشاط مؤخراً عضو الكنيست العربي أحمد الطيبي بصورة علنية على منصات التواصل الاجتماعي، ثمة من يحاول تكييشها في عمان من الذين لا يريدون الإقرار والاعتراف بأن ما يقوله ويفعله الوزير الصفدي هو تنفيذ حرفي وملتزم للتوجيهات العليا للدولة الأردنية، وأن هذا الوزير الشاب الذي كان صحافياً وكاتباً محترفاً يملك كل القدرة الفنية على ترديد العبارات عند التصريحات بالمقاس المطلوب لطبيعة الموقف الأردني. وهي مفارقة كان الصفدي نفسه قد توقف عندها في نقاش على هامش جلسة مغلقة للإعلاميين مع «القدس العربي» مباشرة، عندما قال «إن ما أمثله في الموقف المعلن وفي الغرف المغلقة هو موقف الأردن وموقف الدولة الأردنية الرسمي، وليس موقفي أو موقف عائلتي، وليست أيضاً مسالة في نطاق الاجتهاد».
يجتهد الوزير الصفدي في لفت نظر بعض الخصوم أو المتربصين به، أنه «لا يجتهد في نص» لكن ذلك لا يشفع له كثيراً حتى في بعض أوساط الحكومة أو طبقة «الخواجات» من رموز مدرسة «التكيف» وإن كانت اللهجة الدبلوماسية الأردنية عملياً في أوضح أحوالها وقناعاتها بأن ما يجري الآن -كما يقول أبو الراغب- غربي نهر الأردن هو مؤثر أساسي وحيوي ومنطقي وفاعل في كل شؤون المملكة ومصالحها.
في الخلاصة، مستوى ومنسوب الأزمة الأردنية مع يمين إسرائيل يتفاعل كما لم يحصل من قبل. تقول ذلك تلويحات الصفدي بخيار جنوب إفريقيا، وتقوله هجمة رموز يمين تل أبيب الشخصانية عليه، والأهم تقوله بكل اللغات مداخلة الملك في كيغالي الرواندية.
بقلم: بسام البدارين