فجأة ومن دون سابق انذار، انطلقت حملة إعلامية عالمية ضد “جرائم الأسد وبوتين” في الغوطة الشرقية، وتكاثرت الصور والتقارير المصورة حول الارتكابات والفظائع التي تجري هناك … وبدا أن الضحايا الأطفال الذين تطايرت صورهم المروّعة قبل أن تتطاير أشلاؤهم كما يزعمون، كانوا أودعوا لدى وكالات الأنباء وقنوات التلفزة، نسخاً من أرشيفاتهم القديمة، لغايات نشر صورهم وهم في أبهى حالاتهم إلى جانب ما تبقى منهم من مزقهم وأشلائهم، وما تيسر سحبه من تحت الأنقاض من حقائق مدرسية وأحذية أطفال وكل ما ينفع في تجييش الرأي العالم الدولي واستنفاره ضد “مجرمي الحرب”.
لا أحد ينكر أن ما يجري في الغوطة كارثة إنسانية موصوفة، لكن الموجة الإعلامية العالية تريد أن تجعل من الغوطة، هولوكوست أخرى، غير قابلة للمساءلة والفحص والتمحيص والتشكيك … إن أنت قلت إن أعداد القتلى أقل بخمسين، ينهالون عليك بالاتهامات، وإن انت شككت في صحة بعض التقارير والصور، اتهمت بالتغطية على جرائم الحرب، وإن أنت قلت إن مجازر أخرى، اكثر هولاً، ارتكبت في أماكن أخرى، ولم تحظ بهذا القدر من النحيب واللطم على الخدود، ستتهم بأنك تسعى في “صرف الأنظار” عن جريمة العصر.
لكن ذلك لا يعني أن ما جرى في الغوطة أمرٌ يمكن أن يستسيغه عقل بشري أو ينام عليه ضمير إنساني يقظ، أو يقبل به إنسان القرن الحادي عشر … هذا أمرٌ مفروغ منه، قولاً واحداً، جملة وتفصيلا.
لكن قبل أشهر قلائل فقط، كانت مدينة الرقة، السورية أيضاً، تتعرض لمصير أبشع من الغوطة، وفي الرقة مدنيون أيضاً، والمدنيون أطفال ونساء وشيوخ ورجال وشباب كذلك، المدينة مُسحت عن سطح الأرض، وحظر على الإعلام زيارتها، ولقي ساكنوها مصائر مروعة، من دون أن تذرف السيدة هيلي كيلي أو مندوب بريطانيا الدمع مدراراً، ومن دون أن تتجند الفضائيات “إياها” لبث حفلات الردح والندب واللطم وشق الثياب على مدار الساعة … دمشق، بدورها، مدينة الثمانية ملايين نازح ومقيم، تتعرض يومياً لوابل من الصواريخ والقذائف، التي تطاول مختلف أحيائها، من دون أن نرى تغطية إعلامية رزينة ليوميات عاصمة الأمويين، ومواطنيها الذين يقتلون في منازلهم ومدارسهم ومحلاتهم، من دون سابق إنذار … إنسانية هيلي والفضائيات إياها تمتد من حدود حي جوبر وصولاً إلى دوما البلد وما بينهما.
تذكرنا لطميات اليوم، الإنسانية جداً، بما كان يجري زمن معارك حلب الشرقية، والبكائيات التي دُبّجت على مدنيّها العزل، الذين سيواجهون الترك والنسيان المطلقين، ما أن أتمت قوات الجيش السوري سيطرتها على أحيائها … هنا، يتحول المدنيون الذين كانت معاناتهم “قميص عثمان” قبل أيام قلائل، إلى أرقام في جداول الإحصاءات العامة، وإلى ميليشيات تدعم النظام، ولا تستحق لفتة إنسانية واحدة … هنا يتوقف “الكرم الدولي الحاتمي” لأن مدنيي النظام لا يستحقون الشفقة والعطف، بل وليسوا مدنيين أصلاً، المدنيون فقط هم قاطنو الأحياء والمناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة ومسلحو داعش والنصرة، ما عداهم ليسوا مدنيين ولا يستحقون عطف العالم وتضامنه.
ونستغرب كما يستغرب السفير الروسي في مجلس الأمن: أليس في الغوطة سوى المستشفيات والمدارس، أليس فيها مسلحون ومعسكرات ودشم ومواقع إطلاق مدفعية وصواريخ ومستودعات لتخزين الأسلحة والذخائر ومهاجع للمسلحين، إذا كيف تصمد هذه المنطقة طوال هذه السنوات، في وجه الحلف الثلاثي، روسيا – إيران – وسوريا، وبقية القوى الرديفة والحليفة؟ … ولماذا لا تصيب القذائف الصاروخية والمدفعية سوى أهداف إنسانية في هذه المنطقة، وهل ثمة ما يؤكد أن خرائط غرف عمليات هذه التحالف، لا تؤشر إلا على إحداثيات هذه المواقع الإنسانية فقط؟
ثم، وفي حمأة الحماسة الإنسانية لأطفال الغوطة ونسائها وشيوخها، تصمت كيلي ومعها حلف إقليمي – دولي عن سؤال: هل ستشمل “إنسانيتهم” المتفجرة، مقاتلي داعش والنصرة والفصائل الحليفة لهما كذلك، وكيف سيتمكنون من محاربة الإرهاب في هذه المناطق وغيرها من المناطق؟ … وكيف تسمح نيكي هيلي وترامب، بإعطاء الضوء الأخضر للجيش الأمريكي للتوسع في عمليات قصف مواقع الإرهاب في مناطق معينة، دون الالتزام بالقيود التي فرضتها الإدارة السابقة، بخصوص المدنيين، فيما تستكثر الإدارة ذاتها، على موسكو وطهران ودمشق، فعل الشيء ذاته، في مناطق أخرى؟
ليست معايير مزدوجة فحسب، فهذه دائماً كانت مشكلة المقاربات الغربية لملفات المنطقة، ولكنها إضافة إلى ذلك، محاولة لإعادة النظر في قواعد الاشتباك مع النظام وحلفائه، عبر عمليات تهيئة “إنسانية” تبرر الوجود الأمريكي المستدام في سوريا، وتشرعن تفتيتها إلى إمارات متحاربة، بدءاً بأكرادها … هي حلقة في سلسلة التصعيد الأمريكي – الإسرائيلي ضد إيران في المنطقة وفي سوريا، وهي فصل جديد من فصول الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، التي وضعت روسيا على رأس قائمة الاستهداف بوصفها قوة “رجعية” معادية للولايات المتحدة والغرب والحضارة والإنسانية عموماً.
ثوب الإنسانية الذي تدثرت به بعض القوى الغربية، إنما هو من قماشة “قميص عثمان”، الذي يصلح للاستخدام في حملات التعبئة والتجييش ضد الآخر … وهذه المرة، ربما يكون هذا “الآخر” هو النصرة، مثلما كانت داعش من قبل، والهدف دائماً، وفي كل الحالات، تحقيق أغراض سياسية بالاستناد إلى قوة الجماعات الإرهابية … إنهم يدافعون عن النصرة تحت دثار الدوافع الإنسانية، في الغوطة كما في إدلب، وهم سيدافعون عن داعش في اليرموك والحجر الأسود وجوارهما، عندما تحين لحظة المواجهة مع راياتها السوداء في المستقبل القريب، أليسوا الحاضنة الدافئة للنصرة في القنيطرة وأطراف درعا؟ ألم يرتبطوا بـ “زواج متعة” مديد، مع داعش قبل احتلال الموصل والرقة واثناء حكم البغدادي لدولته الإسلامية في السنوات الثلاث الفائتة … تعددت الأدوار وتبدلت، لكن القاعدة ما زالت على ثباتها: الغاية تبرر الوسيلة، والغاية هي إضعاف روسيا واستنزاف إيران وإنهاك سوريا، أما الوسيلة فلا قيود عليها، حتى وإن جاءت على صورة داعش والنصرة وأخواتهما.