طوال عقود من الزمن، غيّرت الجماعات المسلحة الشيعية المشهد الاجتماعي والسياسي والعسكري في الشرق الأوسط. واعتباراً من عام 2019، تعمل في العراق ولبنان وسوريا أكثر من 100 جماعة وجماعة فرعية شيعية مختلفة، وهي المحركات الرئيسية للنفوذ الإيراني. ولكن على الرغم من مدى تعقيد الجبهات وعدد الفصائل المتحاربة المتورطة، وضلوع إيران بفعالية في هذه النزاعات، إلّا أن معظم الخرائط المنشورة علناً عن هذا الموضوع أهملت الحاجةَ إلى عرض بيانات مهمة حول ميليشيات محددة أو قللت من شأن ذلك. وقد غيّرت هذه المقاربة بشكل جوهري التصورات الدولية للحروب الدائرة في المنطقة، والأهم من ذلك، ميل إيران إلى استخدام وكلاء لها.
وغالباً ما يتمّ تصوير أنشطة الميليشيات الشيعية ضمن خطاب أوسع يتمحور حول “القوات الموالية للحكومة”. فحتى إذا اضطلعت هذه الجماعات بأدوار مهيمنة في نزاع ما وسَعَت إلى تحقيق أهداف تختلف عن تلك التي وضعتها القوات الحكومية، فلا تزال توصف على أنها أكثر من مجرد عناصر دعم. ويساهم هذا الأمر في أحداث تمويه أكبر للتطورات الإقليمية والإيديولوجية البارزة المرتبطة بالميليشيات وبشبكات المحسوبية الخاصة بها.
ولا تزال جمهورية إيران الإسلامية المحرك الرئيسي للميليشيات الشيعية في الشرق الأوسط وداعمها الأكبر. فكما ذكرت “استراتيجية الدفاع الوطني” الأمريكية لعام 2018، “تتنافس إيران مع الدول المجاورة لها، وتؤكد على وجود قوس للنفوذ وعدم الاستقرار بينما تتنافس من أجل الهيمنة على المنطقة، وتستخدم أنشطة إرهابية ترعاها الدولة، وشبكة متنامية من الوكلاء، وبرنامجها الصاروخي لتحقيق غاياتها”. وأضاف “تقييم التهديد العالمي” الأمريكي لعام 2019 أن إيران “ربما ترغب في الحفاظ على شبكة من المقاتلين الشيعة الأجانب” في سوريا. وقد شارك وكلاؤها العاملون حالياً في سوريا والعراق ولبنان في عدد لا يُعد ولا يحصى من الأنشطة الإرهابية واتخذوا مواقف عارضت بكل عنف الولايات المتحدة وحلفاءها الإقليميين. ومن خلال إلقاء نظرة على كيفية استخدام إيران لهذه الشبكات المتعددة الجنسيات قد يساعد في توضيح الأهداف الإيديولوجية والسياسية الإيرانية في المنطقة.
وفي الوقت نفسه، ليست كل جماعة مسلحة شيعية هي من وكلاء إيران. فهناك نزاعات كثيرة بين الميليشيات الشيعية حول المصالح الإيديولوجية والسياسية والتجارية، ويمكن من خلال تعقب هذه التوترات الكشف عن نقاط الضعف والاتجاهات الرئيسية.
لقد أصبح إعداد خرائط تظهر مواقع انتشار هذه الميليشيات مهماً بشكل خاص منذ أن أسست الحكومة العراقية «قوات الحشد الشعبي» في عام 2014؛ وهذه القوات هي مجموعة مظلة مؤلفة عموماً من ميليشيات شيعية تهيمن عليها الجماعات المدعومة من إيران. وزاد ظهور «قوات الحشد الشعبي» من التعتيم على هوية من يقاتل فعلياً على الأرض وأي مناطق تتسم بوجود كبير للميليشيات. وتحارب بعض أقوى عناصر «قوات الحشد الشعبي» في سوريا أيضاً، في حين تمكّن العديد منها من تكوين قوة سياسية كبيرة داخل الحكومة العراقية.
وبالتالي، من الضروري التوصل إلى منهجية مفصّلة وشاملة لإعداد هذه الخارطة. وفي ما يصب في مصلحة صناع السياسة والخبراء المتخصصين في المنطقة والمراقبين، يهدف مشروع إعداد خارطة بمواقع انتشار الميليشيات الشيعية الخاص بـ”معهد واشنطن” إلى تصحيح هذه الفجوة المعرفية من خلال توفير معلومات بيانية معمقة حول تحركات ميليشيات محددة، وتَوسّع نفوذ إيران في الخارج، وجهود العراق للتصدي للاضطرابات ومعاودة ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية» والطريقة التي تحافظ بها الجماعات المسلحة الشيعية على قوتها وتعزيزها، فضلاً عن التوقعات القريبة المدى المرتقبة لسوريا.
مصادر الخرائط
في الماضي، كانت المعلومات المماثلة لتلك التي يقدّمها هذا المشروع محصورةً إلى حد كبير ضمن مجال مجتمع الاستخبارات والمنظمات الإقليمية أكثر منه في أوساط الجمهور في الغرب. علاوةً على ذلك، استخدمت بعض التقارير السابقة حول هذا الموضوع معلومات مستقاة من مصادر خاصة من دون مقارنتها بمصادر الميليشيات الشيعية.
أما الخرائط المعروضة هنا فقد تمّ جمعها عموماً من مصادر أولية للبيانات، بما فيها اتصالات ضمن دوائر الميليشيات الشيعية وتحاليل لمحتوى وسائل التواصل الاجتماعي التي تمّ جمعها على مدى 10 سنوات تقريباً. ويستند المشروع على نحو أكثر تحديداً إلى مقابلات مع مجموعة من المقاتلين الشيعة وإلى مراقبة حسابات حوالي 200 منظمة رسمية وشبكة مقاتلين غير رسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، وحسابات على تطبيقات المراسلة المرتبطة بجماعات مقاتلة شيعية (تشمل تعليقات تم نشرها علناً وبالسر)، ومصادر أخبار باللغتين العربية والفارسية، إلى جانب تقارير صادرة عن منظمات معادية للميليشيات الشيعية (على سبيل المثال، تنظيم «الدولة الإسلامية»). وتمّ استخدام منصة “خرائط غوغل” لانتشارها الواسع.
وتشمل الأساليب المستخدمة في هذا المشروع البحث عن بيانات يمكن إدراجها في خرائط هي الأقرب إلى مكان ملاحظة حدوث نشاط معيّن من خلال التعليقات المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي وعبر تطبيقات المراسلة. وعندما تفتقر التعليقات المنشورة إلى أسماء أماكن محددة، غالباً ما يمكن تعقب المعلومات المعنية من خلال ربطها بمواقع عامة تتمتّع بمستوى معقول من الدقة استناداً إلى بيانات أو أساليب أخرى. أما المواقع التي يتمّ تحديدها عبر مصادر أولية فيجري التحقق منها واستكمالها بمقالات مفتوحة المصدر من الصحف العربية والإنجليزية والفارسية وصفحات الإنترنت الخاصة بالميليشيات، والمقابلات المباشرة مع المقاتلين، و/أو مصادر الجهة المعارضة. وفي حالات أخرى، تمّ جمع المعلومات لإدراجها في الخرائط باستخدام وسائل ترتبط بالموقع الجغرافي. وتجدر الملاحظة أنه تمّت الإشارة إلى أي معلومات غير مؤكدة في مدخلات الخرائط.
وتتضمن المعلومات الواردة في الخرائط ما يلي:
- الاقتتال الداخلي بين الميليشيات الشيعية
- التظاهرات وغيرها من الأحداث المنظمة لصالح ميليشيات مختلفة أو ضدها
- عمليات الميليشيات ضد الأعداء (على سبيل المثال، الجماعات المتمردة السورية، تنظيمي «الدولة الإسلامية» و «القاعدة»)
- الرحلات الخارجية الخاصة التي أجرتها الجماعات المسلحة أو قياداتها
- الاجتماعات بين عناصر القيادة ضمن الجماعات المختلفة أو في أوساطها
- الخسائر البشرية التي لحقت بالميليشيات
- جنازات المقاتلين
- عمليات نشر القوات
- بناء التحصينات ونقاط التفتيش
- مشاريع الخدمة الاجتماعية
ما هي الجماعات التي تدخل ضمن القائمة؟
على الرغم من تركيز المشروع على الميليشيات الشيعية، إلّا أن لدى بعض المنظمات الواردة هنا تركيبةً طائفيةً مختلطة تشمل مقاتلين سنّة ومسيحيين. ومع ذلك، فإن أغلبية المنظمات السنّية والمسيحية والعلوية غير مدرجة، حتى لو كانت تعمل تحت الهيكلية نفسها كميليشيا شيعية (على الرغم من أن مناطق الأغلبية العلوية محددة على خرائط معينة). كما تظهر أيضاً الجماعات الشيعية التي تركز على الشق العرقي – الديني (على سبيل المثال، “قوات سهل نينوى”، التي ينتمي أعضاؤها إلى أقلية الشبك في العراق لكنهم يمارسون الإسلام الشيعي). وتجدر الإشارة إلى أن أغلبية الجماعات المدرجة متأثرة بإيران أو خاضعة لها، ولكن ليس جميعها.
ويدرس المشروع بشكل خاص تحركات وأنشطة الجماعات التالية:
- جماعات «قوات الحشد الشعبي» العراقية (سواء كانت رسمية أو مزعومة)
- «حزب الله» اللبناني
- الجماعات الشيعية السورية المنظمة بناءً على نموذج «حزب الله»
- الميليشيات الشيعية التي تدعي اصطفافها إلى جانب الجيش السوري
- جماعتا مقتدى الصدر «سرايا السلام» و«لواء اليوم الموعود»
- الميليشيات القبلية الشيعية العراقية والسورية
- جماعات تعرّف نفسها على أنها تابعة لمعسكر أكبر خاضع لسيطرة آية الله العظمى علي السيستاني
- الميليشيات الشيعية المعلنة حديثاً
- ميليشيات ذات أغلبية إسماعيلية (أو الشيعة السبعية)، و
- «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني ووحداته الفرعية، بما فيها الجماعة الشيعية الباكستانية “لواء زينبيون” والجماعة الشيعية الأفغانية “لواء فاطميون”.
مجالات التركيز
تشمل أبرز المناطق الجغرافية المدرجة مناطق النزاع الحالية في العراق ولبنان وسوريا. وإذا قامت جماعات أو قام مقاتلون أفراد من هذه المناطق بزيارة دول أخرى، فسيتم توثيقهم أيضاً. على سبيل المثال، تضمّ الخرائط تقارير مفادها أن العناصر المتمرسة ضمن جماعة “لواء فاطميون” – الوحدة الشيعية الأفغانية لإيران في سوريا – أقامت أيضاً ميليشيات محلية في بعض أحياء كابول.
بالإضافة إلى ذلك، يميّز المشروع بين مناطق النزاع الحالية والسابقة والمحتملة، علماً بأن جميع مناطق النزاع المدرجة مباشرة تشمل ميليشيات ذات أغلبية شيعية.
كيف يتمّ عرض أنشطة الجماعات؟
تتم الإشارة إلى الأنشطة التي تقوم بها ميليشيات شيعية محددة بواسطة شعار كل منظمة أو برمز بديل يوضع على الخرائط. أما الوصف المرافق فيشمل تاريخاً دقيقاً أو تقريبياً للنشاط. وإذا كانت صور الحوادث متوافرة، فيتمّ إدراجها أيضاً.
إعداد خرائط عرقية – دينية وطائفية
من المهم تكوين فكرة عن أماكن إقامة السكان الشيعة في العراق ولبنان وسوريا وأين يتمّ تجنيد الشباب. وتستند خرائط هذه المواقع إلى مصادر متعددة تشمل خرائط تاريخية وخرائط صادرة عن الحكومة الأمريكية وتقارير باللغتين العربية والإنكليزية ومقابلات ورحلات شخصية إلى المنطقة.
وتتداخل العديد من المجتمعات ويمكن أن تكون متنوعة تماماً. ونتيجةً لذلك، صُمّمت الخرائط لتقدّم لمحةً عامة عن أماكن التجمعات المهمة للسكان الشيعة ومناطق النفوذ والمواقع المهمة. كما أن سكان بعض البلدات الواردة في الخرائط ليسوا من الطائفة الشيعية بغالبيتهم أو أنهم يتألفون من مزيج أكبر، لكن مع ذلك يتمتع سكانها الشيعة بنفوذ كبير أو يَعتبرون البلدات ذات أهميةً خاصة بالنسبة لهم. وتضمّ الخرائط المعلومات التالية أيضاً:
- الأماكن المقدسة. غالباً ما توصف بـ “المزارات”، وعادة ما تكون أماكن للعبادة والتبجيل للمسلمين الشيعة. لكن بالنسبة لعدد من الميليشيات الشيعية، تشكل ادعاءات الدفاع عن هذه المواقع جوهر أنشطتها المسلحة. ففي سوريا على سبيل المثال، تذرعت الجماعات الشيعية الخاضعة لإيران بـ”الدفاع عن ضريح السيدة زينب” – الذي يشير إلى المسجد والمزار في جنوب دمشق – كقضية للجماهير الشيعية ذات التوجه الإيراني ابتداءً من عام 2012. وفي العراق، استُخدمت صور من تفجير المقام الشيعي “هادي العسكري” في سامراء في عام 2006 لحشد المقاتلين الشيعة في صفوف العديد من الميليشيات. وقد تمّ تحديد ووصف هذه المساجد والأضرحة والمواقع المشابهة على الخرائط.
- الأماكن المقدسة التي دُمِرت في النزاع. قام الجهاديون السنّة باستهداف بعض المواقع الدينية الشيعية التي تَظهر على الخرائط، بصورة متعمدة أو أنها دُمرت خلال المعارك.
فيليب سميث هو زميل “سوريف” في معهد واشنطن، ومتخصص في الميليشيات الشيعية والجماعات التي تعمل لحساب إيران.