قدرات المراقبة الحالية لطهران تركز بشكل أساسي على مراقبة المواطنين العاديين بمن فيهم النشطاء السياسيون وشخصيات المعارضة. فيما يعترف المسؤولون بأهمية الأدوات السيبرانية والذكاء الاصطناعي في السياسة الخارجية، فإنهم يدركون تمامًا القيود المالية والعلمية في البلاد.
تدور المناقشات والمناظرات المعنية باستخدام الفضاء الإلكتروني والذكاء الاصطناعي وأهميتهما في إيران بشكل أساسي حول منظورين رئيسيين، هما: اعتبارهما عناصر أساسية من استراتيجية الأمن القومي، وفهم القدرات السيبرانية والذكاء الاصطناعي كأدوات أساسية لحماية المصالح الوطنية. وفي سياق عقيدة الدفاع المتقدم التي تحظى بتغطية إعلامية واسعة النطاق في طهران، من المنطقي أن نتوقع من طهران تطوير قدرات إلكترونية هجومية (بمساعدة الذكاء الاصطناعي) تسمح لها باختراق أنظمة خصومها وتنفيذ إجراءات استباقية ضد التهديدات الملموسة. ومن الشروط الأساسية الحاسمة للقيام بذلك تطوير قدرات مراقبة قوية من شأنها تنبيه المسؤولين إلى أي هجوم قادم محتمل. لكن الأدلة المتاحة تشير إلى نقص حاد في هذه القدرات، لا سيما بسبب تعرض البنية التحتية الحيوية لإيران لهجمات إلكترونية متكررة يُزعم أن مصدرها إسرائيل.
والجدير بالذكر بشكل خاص هو أن قدرات المراقبة الحالية لطهران تركز بشكل أساسي على مراقبة المواطنين العاديين بمن فيهم النشطاء السياسيون وشخصيات المعارضة. ويتجلى ذلك في مجموعة من التسريبات الأخيرة التي وثقها Intel471 وسلطت الضوء على تكتيكات المراقبة التي يتبعها النظام، ومدى تورط قوات الأمن الإيرانية في تطوير ونشر أدوات مصممة خصيصًا وبرامج ضارة لمراقبة الأفراد داخل إيران وخارجها. ومن الأمثلة على ذلك نشر نظام المراقبة “آبي” الذي يعترض عمليات الإرسال عبر البلوتوث لمراقبة الناشطين السياسيين والمعارضين والمتظاهرين. فمن خلال وضعه على شاحنات صغيرة حول الجامعات ونقاط الاحتجاج الساخنة، يمثل “آبي” أحد أشكال المراقبة المنتشرة المستخدمة لقمع معارضة النظام. وعلى النحو نفسه، يوضح برنامج WinspySuite التزام النظام باستخراج المعلومات الحساسة من أجهزة مواطنيه. ولا تستهدف هذه البرامج الضارة الأفراد فحسب، بل تتسلل أيضًا إلى منصات التواصل الاجتماعي وتطبيقات المراسلة، ما يشير إلى جهد شامل لمراقبة الأنشطة والاتصالات عبر الإنترنت.
ويشكل هذا الأمر لغزًا مثيرًا للاهتمام. فتركيز طهران الحثيث على المراقبة الداخلية يشير إلى عدم الاتساق في هيكليتها العامة للأمن القومي، حيث أنها فشلت، أقله حتى الآن، في تكرار عقيدة الدفاع المتقدم لديها في استراتيجية الأمن السيبراني الخاصة بها. وهذا لا يعني أنها لا تتمتع بأي قدرات سيبرانية هجومية، فبعضها موثق ومحلل بشكل جيد. لكن يبدو أنها كرست الكثير من جهودها ومواردها لتطوير قدرات المراقبة المناسبة للاستخدام المحلي، فحرمت نفسها بذلك من القدرة على كشف التهديدات السيبرانية وردعها بصورة مسبقة.
وبالإجمال، ترتكز استراتيجية الأمن القومي الإيرانية على ركيزتين أساسيتين. الركيزة الأولى هي الاستفادة من ميزتها الجغرافية لبناء قدرة هجومية تتمحور حول صواريخ متوسطة وطويلة المدى قادرة على ضرب أهداف قريبة وبعيدة. أما الركيزة الثانية فتعتمد على تعزيز موقف الردع من خلال دعم الجماعات المتحالفة معها أيديولوجيًا والمعادية للمصالح الأمريكية والإسرائيلية في المناطق المجاورة لها. ويتوافق هذا الجانب الأخير مع هدف طهران المتمثل بممارسة النفوذ بدلًا من السعي إلى السيطرة الكاملة على شؤون الدول المجاورة.
تخدم هذه المجموعات الوكيلة أغراضًا إيرانية متعددة. فهي توفر معلومات استخباراتية عن تحركات الخصوم، وتعرقل مصالحهم عند الضرورة، وتؤثر على التوجه السياسي للدول المجاورة. ومن خلال تقوية هذه الجماعات لتصبح جهات فاعلة مؤثرة في السياسة الإقليمية، تضمن إيران دعم الدول المجاورة لمصالحها، أو على الأقل امتناعها عن سنّ سياسات تتعارض بشكل مباشر مع مصالح طهران الاستراتيجية. بالإضافة إلى ذلك، ومن خلال إسناد الالتزامات العسكرية إلى جهات غير إيرانية، يخفف النظام الإيراني من مخاطر ردود الفعل المحلية التي ترتبط عادةً بالخسائر العسكرية.
وفي تناقض صارخ مع نهج النظام على الساحة الإقليمية، تلتزم أجندته المحلية بنمط استبدادي مشترك، وهو الحفاظ على السيطرة الكاملة على جميع جوانب الحياة العامة. فالسلطات الإيرانية مدركة لمواردها المحدودة، التي تشكل بدورها نتيجة مباشرة لأولويات سياستها الخارجية وأنظمة العقوبات اللاحقة التي يقودها الغرب، وبالتالي تنظر في الغالب إلى الفضاء الإلكتروني والذكاء الاصطناعي كأدوات للتلاعب والمراقبة على المستوى المحلي، وهو نهج شرّعه البرلمان الإيراني في أواخر العام الماضي في قانون يطالب وزارة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في إيران بمشاركة جميع بيانات المستخدم ومعلوماته مع قوات الأمن من دون قيد أو شرط.
بعبارة أخرى، فيما يعترف المسؤولون بأهمية الأدوات السيبرانية والذكاء الاصطناعي في السياسة الخارجية، فإنهم يدركون تمامًا القيود المالية والعلمية في البلاد والتي تحد بشدة من استخدامهما بشكل كامل في هذه المجالات. وبالتالي، يُنظر إلى الفضاء الإلكتروني والذكاء الاصطناعي بشكل أساسي كأدوات لتعزيز خطاب الحكومة، وتوجيه التصورات العامة ومساعدة الحكومة في الحفاظ على سيطرتها المطلقة على المجتمع. وفي مقابلة أجريت بتقنية “التزييف العميق” (deepfake)، تم بثها مؤخرًا مع نجم كرة القدم البرتغالي كريستيانو رونالدو، ناقش التحديات المالية التي يواجهها، محاولًا على ما يبدو تطبيع الصراعات المتمثلة بإدارة نفقات الأسرة وتراجع قيمة الريال الإيراني.
بالإضافة إلى ذلك، وربما الأهم من ذلك هو أن الاستثمار في قدرات المراقبة السرية يوفر وسيلة أكثر سرية وبالتالي أكثر فعالية لممارسة النفوذ على المجتمع وإبقاء القبضة على السلطة. يضاف إلى ذلك ما يسمى بإمكانية التصدير لبرامج وأنظمة المراقبة المنتجة محليًا كمصدر دخل مربح للحكومة. على سبيل المثال، إنّ برنامج “آي سباي” (EyeSpy) الذي تم الكشف عنه مؤخرًا، وهو شبكة افتراضية خاصة إيرانية الصنع ومزودة ببرامج ضارة تمكّن النظام من مراقبة عمليات البحث والمحادثات عبر الإنترنت، سيكون خيارًا جذابًا للأنظمة الاستبدادية ذات موارد الميزانية المحدودة. فعزل إيران عن سلاسل التوريد العالمية اضطرّها إلى إنشاء بنية تحتية تكنولوجية محلية لتلبية متطلباتها الأمنية والتجارية. ومع العوامل الإضافية المتمثلة بضعف العملة، وانخفاض تكاليف العمالة والإنتاج، وتساهل سياسات التصدير، والموقف الاستباقي لناحية الاستفادة من خبرتها لتحقيق المكاسب المالية والنفوذ، تُعتبر طهران الآن في وضع مناسب للترويج لتكنولوجيتها كبديل أوفر عما يوفره نظراؤها الغربيون.
أخيرًا وليس آخرًا، تكمن فائدة مزدوجة في تطوير تقنيات المراقبة لأغراض محلية، إذ يمكن إعادة توظيفها لنشرها في أنظمة خصوم إيران وشبكاتهم. فتطوير قدرات هجومية متطورة قد يستحث التدقيق الدولي ويستجلب المزيد من العقوبات، ما قد يزيد من تصورات التهديد لدى جيران طهران. وهذا بدوره قد يؤدي إلى تسريع سباق التسلح السيبراني المستمر في المنطقة من خلال دفع الدول المجاورة إلى تخصيص موارد كبيرة لمواجهة القدرات الإيرانية المتصورة. نظرًا لهذه الأولويات المتنافسة والقيود التي تحد من الموارد، ينظر النظام إلى الاستثمار في المراقبة المحلية كوسيلة فورية وأكثر فعالية من حيث التكلفة للإبقاء على سيطرته ونفوذه بينما يستمر بالاعتماد على وكلائه لأغراض الاستخبارات/النفوذ الأجنبي.
بصورة عامة، يعكس نهج إيران تجاه الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي ديناميكيات معقدة تتقاطع فيها استراتيجية الأمن القومي والسيطرة المحلية والقيود على الموارد. وفي حين تشير عقيدة الدفاع المتقدم للبلاد إلى الحاجة إلى قدرات إلكترونية هجومية قوية، دفع واقع الموارد المحدودة والسخط العام الواسع النطاق المسؤولين الإيرانيين إلى اعتبار الأدوات السيبرانية وسيلة منفصلة وفعالة التكلفة لتعزيز قبضتهم المحكمة أصلًا على المجتمع. وهذا التركيز على المراقبة، لا سيما استهداف المعارضين السياسيين، يسلط الضوء على ميول النظام الاستبدادية واعتماده على الابتكار التكنولوجي لغرض وحيد هو أمن النظام/الأمن الداخلي.
مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن إمكانية تجديد بعض تقنيات المراقبة لخدمة أهداف السيطرة الداخلية والسياسة الخارجية المحتملة تؤكد على درجة عالية من البراغماتية لدى الاستراتيجيين الإيرانيين الذين لم يترك لهم كفاحهم على مدى عقد من الزمن ضد العقوبات الغربية أي خيار سوى التفكير والتصرف بشكل مبتكر. من هذا المنطلق، ومن أجل فهم تطور واستخدام الفضاء الإلكتروني والذكاء الاصطناعي في إيران بشكل أفضل، لا بد من الإضاءة ليس فقط على الضرورات الاستراتيجية، بل أيضًا على الأجندة الاستبدادية الأوسع للنظام والقيود التي يواجهها على الساحة الدولية.