لا يبدو القول في أن العراق يمثل بيئة آمنة للإفلات من العقاب، قولا مبالغا فيه، فما يزال عدم تقديم مرتكبي الجرائم إلى العدالة يعمق ثقافة الإفلات من العقاب؟ فتتزايد الجرائم وينتشر الخوف بين الناس وبالتالي يتم خنق الانتقادات ويمتنع الجميع عن طرح أسئلة صعبة ولا أحد يتحدى المتنفذين والأقوياء مما يعني في النهاية القضاء على أي أمل بالعدالة والأمن والسلام الاجتماعي.
وأهم ما يشجع الإفلات من العقاب هو دور القانون الضعيف وفشل مؤسسات الدولة وانتشار الفساد الذي يمنع تحقيق العدالة لعدم وجود رادع قوي للسلطة ونظام قضائي فاعل.
جرائم علنية وعقاب مستتر
كل الجرائم في العراق والتي تبدأ من القتل الفردي والجماعي، ولا تنتهي باستهداف الصحافيين مرورا بالفساد ونهب المال العام والاستيلاء بغير حق على موارد البلاد والدولة، هي جرائم علنية لكنها ظلت بلا عقاب، في تشجيع لا يخفى على ارتكاب المزيد منها.
و يعكس الإفلات من العقوبة في العراق فشلاً في السيطرة على الجرائم التقليدية، وأعمال العنف الدموية والأفعال التي تشكل انتهاكا لحقوق الانسان، وفي ايقاع العقوبات المناسبة بمرتكبها وتنفيذها، خصوصا في الجرائم الماسة بالأمن وجرائم التخريب الاقتصادي والجرائم الأخرى المعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد أو المؤقت .
كما يعني الإفلات من العقاب إهانة علنية تامة للضحايا وذويهم الذين يرون الجناة بعيدا عن المساءلة والمحاسبة وقبضة العدالة، ليس هذا وحسب بل يتمتعون بحياة أفضل ويمسكون بمقاليد السلطة ويتحكمون بمصائر الضحايا ويثرون قلقا عاما داخل المجتمع.
وتتجلى ظاهرة الافلات من العقاب في العراق في ظواهر تأكدت بعد 2003 :
1- إفلات عدد من المسؤولين العراقيين ممن تبوؤا مراكز قيادية في النظام السياسي الجديد ن العقاب بعد ارتكابهم عددا من الجرائم، حيث اشترك عدد من السياسيين وكبار موظفي الدولة العراقية في أعمال عنف وقتل وتعذيب وتحريض، ودعموا جماعات ارهابية ومليشيات وعصابات منظمة.
2 – إفلات عدد من المسؤولين العراقيين من العقاب بعد اختلاسهم المال العام، وتهريبهم إلى الخارج أموالا طائلة.. ولكن الكثير منهم ظل خارج قبضة العدالة يتمتع بالحصانة السياسية والحزبية والمذهبية.
3 – اطلاق سراح المدانين عبر “العفو العام”، كما فعلت الحكومات العراقية بين حين وآخر، منها العفو الأخير والذي بموجبه اطلق صراح مفسدين كبار وأوقفت جميع الاجراءات القانونية ضدهم، أو بعفو خاص، واطلق سراح الآلاف من السجناء والمجرمين.
4 – تهريب المجرمين من السجون وهو ما نفذته جماعات منظمة ومسلحة مرات عدة وبالتواطؤ مع بعض المسؤولين بالهجوم على السجون وتهريب السجناء والمجرمين بما فيهم عدد من المحكومين بالإعدام، كما حصل في الهجوم على سجن ابي غريب المركزي وسجن 2013 والبصرة وديالى وبغداد تكريت والأنبار.
5 منح الحصانة البرلمانية للفاسدين والقتلة، حيث يتمتع اعضاء مجلس النواب العراقي بالحصانة البرلمانية التي استخدمت للتغطية على السلوك الاجرامي الذي تميز به بعض النواب، حيث اثبتت التحقيقات اشتراك عدد من النواب بالأعمال الارهابية واعمال قتل واختطاف مواطنين وتحريض طائفي سواء بأنفسهم أو بدعم واشراف منهم. ولكن لم يتم استدعائهم أو القبض عليهم وتقديمهم لمحاكمة عادلة بسبب عدم رفع الحصانة.
6 – إفلات سرّاق المال العام بسبب ازدواج الجنسية: وعلى الرغم أن الدستور العراقي يمنع المسؤولين الذين يتقلدون مناصب سيادية من التمتع بأكثر من جنسية، إلا أن هذا النص من الدستور ظل حبرا على ورق في كثير من الأحيان، وتولى بعض العراقيين ممن يحملون جنسيات بلدان أخرى مناصب رفيعة، وقد تمكن بعض ممن سرق المال العام من الاحتجاج بجنسية البلد الاخر، كما حصل مع وزير الكهرباء الأسبق أيهم السامرائي (جنسية أميركية) ووزير التجارة الأسبق فلاح السوداني (جنسية بريطانية) وغيرهما كثيرون.
الإفلات من العقاب: أي رسالة اجتماعية ؟
يترك الإفلات من العقاب آثارا اجتماعية وقانونية كثيرة منها: *احتقار القانون
*زعزعة ثقة المواطن بأجهزة الدولة القضائية والتنفيذية والتشريعية.
*فقدان الإحساس بالأمن وتصاعد مشاعر الخوف والهلع والاحباط.
*استمرار العمليات الإرهابية والجريمة المنظمة لإحساس المجرمين بعدم وجود رادع.
*التشجيع غير المباشر لتأسيس تكتلات وجماعات مسلحة ومليشيات خارج القانون.
*الاستهانة بالضحايا ومعاناة ذويهم.
*بقاء المتهمين والمجرمين أحرارا يعني أكبر إساءة لسمعة الاجهزة الامنية والعسكرية والسياسية في الدولة العراقية.