بقلم : جمال محمد تقي
لم يفته النصر بل ظل كظله يطارد الطغاة بلا حدودٍ لزمان او مكان ، والبديل الرمزي للزمن والجسد الفاني ظل شاخصا في ضمير الوعي المعرفي وفي الاوعي المكتسب والمتوارث رغم تعاقب الاحقاب عليه ورغم محاولات طمس معانيه ، وافراغ رمزية الحالة وتفريغ شحناتها بجعلها طقوسية وكانها تقديس وعبادة للشخصية ذاتها ، وليس لوقفاتها واعمالها وهذا ما يؤدي ميدانيا الى مردودات عكسية تخديرية تنفيسية لا تجانس اصلها الرمزي التثويري والتنويري ، وفحوى رسالتها التي تختصر تاريخيا بفعل المقاومة كضرورة موضوعية للتغيير الذي يمس الامة ومصالحها .
المقاومة فرض انساني واخلاقي وجمالي وتاريخي قبل كونه فرض ديني ، لهذا كله فان رمزنا يتكامل مع رموز تسبح مضيئة بسماء البشرية كلها ، المسيح وحالة صلبه ، غاندي واحتقاره للقوة الغاشمة التي تهتك بالضعفاء ، لقد برهن غاندي على ان ارادة المقاومة وحدها قادرة على تحقيق المعجزات !
الرمز ينسخ بارواح واجساد لها اول وليس لها اخر ، وهنا ايضا رمزية اسطورية تتناقلها اغلب مناطق الاوعي الفردية المتراكمة تراكم جمعي تتوارثه ذاكرة حاضرة تتلاقح في منطقة تتوسط العصب الباطني المضمور مع الوعي بالحاضر المقهور !
الرمزية تساعد الناس على استلهام خلاصة التجربة التاريخية واعادة صياغتها بما يعزز مصائرهم ويحميها ، ارزاقا واعناقا ، وهي بهذا المعنى تنتصر للرمز عندما تنتصر لذاتها ، حيث السعي للخيربكل اعماقه ومضامينه ومقاومة الشر بكل اشكاله ومضامينه .
ان اشعال سعير التحريض ضد الطغاة باستلهام وقفات الرموز للخوض في هذه المصارع انما هو عين الفروض الواجبة للمستلهمين .
التشخيصية تبتذل الرمزية وتفصلها عن روحها ، بل انها في واحدة من مراتبها تطعنها في الصميم شالة تاثير مفعولها ومانعة اياها من اداء وظيفتها التعبوية التي تتسق مع روح الرمز، التشخيصية تعبير شكلي يجل المظهر لا الجوهر ، يركز على شخصنة المشخص بروح غيبية تقتل القيمة الانسانية في الذات المرمزة !
في وقفة الحسين تتداخل اخلاقيات التضحية والايثار بالشجاعة والمصابرة والاصرار والاقدام على مقارعة الظلم ، اخلاقيات تدعو لتبني نموذجا وقدوة من طراز جديد ، فاذا كان النبي قد اعطى القدوة بذات الاخلاقيات اثناء صراعه مع غير المسلمين ، فان الحسين جسدها بين معشر المسلمين ذاتهم وهو قد اعطى درسا لهم فيه قياس انساني عام ، عندما وصل الصراع على السلطة بين مجاميعهم الى اشده بحيث غطى غباره على اصل الرمزية المحمدية ، وهذه حالة جديدة افرزت صراعا بين قوى الخير والشر داخل البيت الاسلامي الكبير الذي شهد تحولات كبرى بعد ان غدت دولة الاسلام عابرة للحدود سائرة نحو تجاوزمن سبقها من امبراطوريات .
جاءت وقفة الحسين لتعطي رمزية من نوع اخر رمزية لا تريد السلطة الا عقدا بين الحاكم والمحكوم واذا اخل الحاكم بعقده فان خلعه امر مفروغ منه ، والبيعة له لا تتم الا بالاهلية ، رمزية تريد ان تؤسس لحكم يخدم الناس ومصالحهم ، حكم ليس فيه توريث وطغيان فالحاكم ليس ظل الله في الارض والخلافة ليست قميص يمنحها الله له ، انه تكليف بشري له مستلزمات ان انطبقت على اسود حبشي فاليحكم بعد ان يبايعه الناس اختيارا وليس خوفا !
حسينا يحلم بمدينة اسلامية فاضلة ، وهو لم يكن افلاطونيا لذلك سار بنفسه نحو تحقيق شرف المحاولة وجسد بهذا معينا لا ينضب لمحاولات لاحقة سيكون لتراكمها اثر بالغ في قيام البديل .
لذلك لم يكن في ذهن الامام الحسين ان تحصر خلافة المسلمين بنسله ، اما المذاهب الاثنى عشري او الامامي والزيدي والجعفري والكسائي والايباضي والاسماعيلي فهي فقه مؤول في اجتهاده ولا يخلو بعضه من الجنوح لكنه عموما يعكس حالة التصدي للحكم الاسلامي المنحرف ، والامام في اغلب اصل هذه المذاهب هوالمعبر عن فقه الاسلام وهو بالتالي بورعه وتقواه ضمير الامة ، واحيانا هو قائد لمعارضتها وليس هو خليفة مسبق بحكم انحداره من نسل علي وفاطمة عليهما السلام ، والمذاهب الفقهية الاسلامية السنية الاربعة الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي ، سارت في اتجاه لا يختلف مضمونا عن المذاهب الشيعية رغم كونها غير باطنية اي غير سرية ، فالائمة في هذه المذاهب لم يكونوا دعاة خلافة او سلطة وكانوا يدعون الخلفاء الى الاعتدال والاهتداء بتعاليم الاسلام العامة والخاصة ، لكنهم لم يكونوا دعاة ثورة ، انما اصلاح وتقوى ، وقد دفع بعضهم حياته ثمنا لمواقفه المبدئية من الحكم كما حصل مع الامام ابو حنيفة النعمان في عهد ابو جعفر المنصور ، لقد كان ابو حنيفة قريبا من أئمة الشيعة وعمل على تليين مواقف العباسسين منهم !
ان تسسييس الوقفة الحسينية باتجاه يغاير رمزيتها هو تشخيص مشوه للاقتداء بها ، فالحوزة الحسينية هي حوزة ناطقة بكل ما يوحد الامة ويجمعها على كلمة سواء ، وعلى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمعروف بلغة عصرنا هو حرية الانسان واختياره الذي لا جبر فيه غير جبر عدم تجاوز حدود الاخرين ، اما النهي عن المنكر فهو النهي عن الخنوع او مداهنة الطغاة ، والمحتلين لبلادنا هم الطغاة ، ولهؤلاء اتباع من بني جلدتنا مقاومتهم وتجريدهم من مكامن قوتهم عمل حسيني بكل ابعاده .
حوزة الحسين لا تلطم ولاتستهلك طاقتها ودمها بجلد ذاتها وانما تستحضر معاني وقفته لتسير على هداها ، الحسيني الحقيقي هو المقاوم للظلم والفساد والفرقة وقبل كل هذا وذاك المقاوم للاحتلال بيده او لسانه او قلبه وذلك اضعف الايمان ، الحسين قاوم بالثلاثة معا ، فهل من يدعون بالحسينية من اصحاب الاحزاب الطائفية واصحاب الحوزة الصامتة ومقلديهم يسيرون على طريق الحسين ويسعون للتغيير الذي يخدم الامة ، ام انهم يتاجرون بالحسين لغايات بنفوسهم ـ مال وجاه وسلطان ـ ؟