دعني أخبرك السبب……
هل نبدأ من العراق أم من فيتنام ؟
الأفضل أن نبدأ من شخص رفض تسلم جائزة نوبل للسلام عام 1973 وهو الفيتنامي ‘‘لي دوك ثو‘‘ ، الذي كان بطلًا في حرب التحرير ضد الفرنسيين والأميركيين ، ومن ثم قاد مفاوضات السلام نيابة عن فيتنام الشمالية مع الولايات المتحدة في باريس طوال العام 1972 و 1973
لكن الرجل كان يوصف على الدوام بأنه مفاوض شرس ، رفض التنازل عن شرط توحيد بلاده ، وإسقاط النظام العميل للأميركيين في فيتنام الجنوبية.
على الطرف الآخر من مائدة التفاوض كان يجلس الأميركي اليهودي هنري كيسنجر
كان كيسنجر بالفعل عبقريًا في السياسة الدولية للحد الأقصى ، بل ربما واحدًا من أهم عباقرتها في القرن العشرين ، ونبوغه بدأ من شبابه الجامعي ، واستمر في ترقيه السريع المستحق ، لكنها كانت عبقرية شريرة لدرجة قاسية
هاتف كيسنجر الرئيس نيكسون في مساء اليوم الرابع من ديسمبر عام 1972 ، وأخبره بأن لي دوك ثو صلب الرأس ويحتاج لمبرر قوي لتقديم تنازلات
هنا سأل نيكسون كيسنجر :
ما المبرر الذي يقترحه ؟
فأجاب كيسنجر على الفور ‘‘الكثير من B52 ‘‘
وبالفعل ، ولمدة الأسابيع الثلاثة التالية من ديسمبر 1972 بدأت الطائرات الاميركية من ذلك الطراز قصفًا جنونيًا هائلآ على هانوي
المدنيين كانوا الهدف الأول
21 ألأف قتيل سقطوا
لا بل تفحموا
لا بل حتى ذابوا من القنابل الحارقة والنابالم
يروي أحد الناجين في وثائقي أذاعته شبكة PBS قبل سنوات ، بأنه شاهد 4 سيارات وقد تحولت جميعها لما يُعادل حجم صندوق من الحديد
سأله المذيع وماذا عن عائلتك ؟
أجاب والدمع يتحجر في عينيه ، كانوا داخل ذلك الصندوق
حققت أميركا هدفها
عاد ‘‘لي دوك ثو‘‘ لطاولة التفاوض مع كيسنجر ، وكان توقيع اتفاق السلام في يناير 1973.
ومن المضحكات المبكيات أن لجنة نوبل للسلام منحت الجائزة مناصفة لهنري كيسنجر و لي دوك ثو ، فرفض الفيتنامي استلامها ، كان يعلم في قرارة نفسه أن الجائزة ممسوخة ، وأن له ثأر مع الأميركيين لم ينته بعد
وبالفعل رفض الجائزة
وعاود الحرب إلى أن استولى على فيتنام الجنوبية بعد أن خرجت منها الولايات المتحدة ، ووحّد بلاده
قتلت واشنطن 21 ألف روح إضافية في قصف جنوني فقط لإجبار لي دوك ثو على العودة لمائدة التفاوض
قتل كيسنجر الناس حرقًا ، والعالم الأفّاق منحه جائزة نوبل للسلام
و في العراق
هناك جندي عراقي يطل برأسه خارج شاحنته العسكرية
وضعية جسده تشي بأنه كان يحاول الهرب من القصف
الذعر يكسو قسمات وجهه
يداه متشبثة بحافة الآلية
يجز علي أسنانه من فرط الألم
ويُدرك أن أوان الفرار قد فات
مات محروقًا بفعل القصف الأميركي
ما الذي حدث قبل تلك الصورة ؟
-صدام غزا الكويت في أغسطس 1990
-شنت أميركا وحلفاؤها حربًا لإخراج صدام من الكويت في يناير 1991
-سحقت أميركا الجيش العراقي بقصف مروع
-كل تلك الأعمال الحربية تقع فيها خسائر من هنا وهناك
-لكن صدام قرر الانسحاب
-جنود مستسلمين عائدين لبلادهم
-يتركهم الأمريكان ببساطة يعبرون الحدود
-لكن هذا لم يكن القرار الذي انتهى إليه اجتماع شوراتزكوف وجورج بوش الأب وجيمس بيكر
-شوارتزكوف أوصل رسالة قاطعة
-لا مجال لترك عراقي واحد حي في الكويت
-وافق بوش الأب
-مجزرة واحدة إضافية ستكون مقدمة لنزع تنازلات أكثر من صدام ، في إقامة مناطق حظر جوي فوق أراضيه بلا أدنى مناقشة
-والنتيجة
-إندفعت الطائرات الأميركية لصيد الجنود المنسحبين بمدرعاتهم حتي إفنائها
-إحدى تلك المجازر التي ارتكبت بحق الجنود المنسحبين كانت علي الطريق 8
-أطلقت واشنطن حمم طائراتها لتُدمر 2000 آلية عسكرية عراقية كانت في طريقها للإنسحاب إتجاه الحدود -القصف كان مرعبآ لحد أن التصقت الآليات بالأرض من شد احتراقها و ذوبانها على من فيها
-كان هناك ما يلفت انتباه ‘‘كينيث جاريك‘‘ مصور الأسوشيتيد برس عندما ترجّل من سيارته لإلتقاط صور الضحايا داخل آلياتهم المُمدة علي جانبي ما سُيعرف لاحقًا بطريق الموت
-وكانت الصورة لذلك الجندي العراقي
-ذهب جاريك بالصورة لكبريات الصحف الدولية ، لكنها جميعًا رفضت نشرها حتى لا يتعاطف العالم مع العراقيين ، إلا صحيفة واحدة هي ‘‘لندن أوبزرفر‘‘ ، نشرها جاريك مصحوبة بتعليق ‘‘ إن كنت كبيرآ بما يكفي لخوض الحرب ، فيجب أن تكون كبيرآ أيضآ لمشاهدة تلك الصور‘‘
و هنا ، لماذا تحرق إسرائيل الأطفال في رفح؟
-لأن ذلك ما تعلمته من شيطان العالم الأكبر ، الولايات المتحدة
-لأن المدنيين بالنسبة لها أدوات حرب ، توجب التنكيل بهم لإجبار المقاوم على الاستسلام
-لأن هذا هو درس كيسنجر
-وتلك هي تعاليم شوارتزكوف
-ولأن العالم بالنسبة لهم ‘‘أغيار‘’ و يجب الخلاص منهم إن لم يقبلوا العيش كالعبيد
-والفلسطيني لا يختلف كثيرًا عن الفيتنامي ولا العراقي
-هو ضحية لنفس الآلة
-لنفس الحضارة القائمة على استخدام فائق الدقة للعنف المنظم من أجل بسط سيادتها
لكن ما يجعل مأساة الفلسطيني جدّ مضاعفة:
-أنه مستباح
-أن الأصل في تعامل العالم معه إستباحته
-إستباحة أرضه وماله ونفسه وجسد
و ماسوف يجعل عقابه من العالم أقسى وأشد تنكيلًا:
-أنه خرج للمرة الأولى عن تلك السردية وقرّر أن يهاجم بطوفانه
-ألا يكون الضحية من جديد
-وألا يكون رد الفعل فقط لألف فعل مجرم ضده
-وما الحرق والقتل الجنوني إلا تذكير من العالم ‘‘المتحضر‘‘ بأمرين :
-أن عليك الجلوس إلى مائدة التفاوض والتنازل
-وأنه يتعيّن عليك الندم على ما فعلت
-وأن تقبل من جديد أن تعيش راكعًا جاثيآ
الفلسطيني يعاقب على أنه اختار للمرة الأولى أن يعيش كأقرانه
إنسانًا
هل تعرف إذآ لماذا كان القصف على خيام النازحين؟
لأن تلك حضارة الغرب
ولأن إسرائيل خير من يمثلها
لكنك فقط تنسى
والهزيمة تبدأ من هنا
من نسيان أصل الأزمة
وموطن الكارثة
الحضارة الغربية