بقلم: الدكتور سعد شاكر شبلي
لم يكن صعود قوى اليمين في المشهد السياسي الأوروبي وليد اللحظة، بل أنه جاء منذ عقد من الزمان تقريباً إذ شهدت القارة العجوز متغيرات عديدة في الأوضاع السياسية كان من بينها الصعود الملحوظ للقوى اليمينية، خاصةً الشعبوية منها، ممّا أثار تساؤلاتٍ شعوب منطقة الشرق الأوسط حول تداعيات ذلك على الأحداث المضطربة أصلاً في هذه المنطقة.
ويُعدّ فهمُ تأثير هذا الصعود أمراً معقداً، كونه يتشابك مع العديد من العوامل وتتفاعل تأثيراته على مختلف المستويات. فقد شهدت الانتخابات الأوروبية صعود تيار اليمين المتطرف في عدد من الدول في مقدمتها ألمانيا، ومحدثة زلزالاً سياسياً بفرنسا، لكن من دون الإخلال بالتوازن السياسي الذي تمر فيه بلجيكا، ورغم ذلك فإن تقدم اليمين المتطرف سيكون له تأثيرات محدودة في أغلب توجهات السياسة الخارجية للعديد من الدول التي شهدت هذا الصعود، على الأقل في السنوات القريبة القادمة.
واليمين هو مصطلح سياسي يرجع أصله إلى زمن الثورة الفرنسية (1789) والتي كانت بداية هذا المصطلح، واليمين هو عكس اليسار حيث كان النواب (اليمينيون) يجلسون إلى اليمين وهؤلاء بدورهم كانوا موالين للملكية أما المعارضين (اليساريين) كانوا يجلسون إلى اليسار في البرلمان الفرنسي.
وقبل الشروع بتناول مدى تأثير صعود قوى اليمين في الأوضاع السياسية الأوروبية محلياً في الدول المعنية وإقليمياً ودولياً، كان من الضروري التوقف عند عدد من المعطيات التي لها علاقة بذلك الصعود، الذي تصادف معه صعود اليمين الأمريكي، وأن العلاقات بين هاتين القوتين تكاد تكون مشابهة لشبكة معقدة من التشابكات والتأثيرات المتبادلة بينهما، حيث أن الصعود الملحوظ لقوى اليمين في قارتي أوروبا وأمريكا، سواءً الشعبوي أو القومي أو المحافظ، قد أثار تساؤلات حول طبيعة العلاقة بين هذه التيارات على جانبي الأطلسي، لاسيما أن أوجه التشابه والاختلاف بينهما أوجدت تأثيرات متبادلة وفقاً للاعتبارات الآتية:
أوجه التشابه
• الخطابات القومية: يتبنى كل من اليمين الأوروبي والأمريكي خطاباً قومياً قوياً، مؤكداً على الهوية الوطنية، ومعارضاً للهجرة والاندماج.
• معارضة العولمة: يرى كلا الجانبين سلبيات العولمة، من حيث التأثير على الوظائف المحلية والثقافة، ويدعوان إلى سياسات حمائية.
• الشعبوية: تُوظفّ التيارات اليمينية في كلا القارتين خطاباً شعبوياً، ومُخاطبةً هموم الطبقة العاملة ومُتحدّثةً باسم “الشعب الحقيقي” ضدّ “النخب”.
• التشكيك بالمؤسسات: تُظهر بعض التيارات اليمينية ميلاً للتشكيك في المؤسسات الديمقراطية والتقليدية، مثل الاتحاد الأوروبي في حالة اليمين الأوروبي، أو بعض المؤسسات الأمريكية مثل الإعلام والعدالة في حالة اليمين الأمريكي.
أوجه الاختلاف
• الجذور التاريخية: تختلف جذور اليمين في كل من أوروبا وأمريكا، ففي أوروبا، غالباً ما ترتبط بالفاشية أو الاستبداد، بينما في أمريكا، ترتبط بالليبرالية الكلاسيكية والمحافظين الجدد.
• الدور الديني: تؤدي المسيحية دوراً مهماً في خطاب بعض تيارات اليمين الأمريكي، بينما يتجنب اليمين الأوروبي الحديث ذكر الدين بشكل مباشر.
• العلاقة مع روسيا: تُظهر بعض تيارات اليمين الأوروبي موقفًا متعاطفاً مع روسيا، بينما تُحافظ قوى الايمين في الولايات المتحدة الأمريكية على موقف أكثر تشدداً ضدّها.
التأثيرات المتبادلة
• التأثير الأمريكي: لعبت الولايات المتحدة الأمريكية دوراً مهماً في صعود اليمين الشعبوي في أوروبا، من خلال خطاب الرئيس السابق دونالد ترامب ودعمه لبعض الزعماء اليمينيين الأوروبيين.
• التأثير الأوروبي: قد تُلهم بعض تجارب اليمين الأوروبي، مثل سياسات الهجرة المُقيدة، نظرائهم في الولايات المتحدة الأمريكية.
• التأثير الدولي: يُمكن أن تُشكلّ تحالفات اليمين الأوروبي والأمريكي تحدياً للنظام الدولي الليبرالي، وتُؤثّر على القضايا العالمية مثل التجارة والهجرة وحقوق الإنسان.
وبشكل عام فإن العلاقة بين اليمين الأوروبي والأمريكي معقدة ومتعددة الأوجه، تتسم بتشابهات في الخطاب والأيديولوجيا، واختلافات في الجذور التاريخية والسياق السياسي. كما تُؤثّر هذه التيارات على بعضها البعض بشكل متبادل، من خلال تبادل الأفكار والاستراتيجيات، وتقديم الدعم السياسي والمعنوي، وقد تُشكّل هذه التحالفات تحدياً للنظام الدولي الليبرالي، وتُؤثّر على مسار القضايا العالمية في المستقبل.
ومن جانب آخر فإن صعود اليمين الأوروبي قد جاء في ظل التقارب الملحوظ مع اليمين الإسرائيلي خلال السنوات القليلة الماضية، وذلك لأسبابٍ متعددة، منها:
1. القواسم المشتركة الأيديولوجية: يتّفق كلّ من اليمين الأوروبي واليمين الإسرائيلي على رفض الهجرة غير الشرعية والسيطرة الصارمة على حدودهما، فضلاً عن المخاوف من “الإسلاموفوبيا” حيث يُروّج كلا اليمينين لخطابٍ مُتخوّف من “التطرّف الإسلامي” و”هجرة المسلمين” إلى أوروبا. وإن ذلك ما كان له أن يكون لولا تأييد اليمين الأوروبي بشكلٍ عام لما يعرف (حقّ إسرائيل في الوجود) ودورها كحليفٍ استراتيجي في المنطقة.
2. المصالح المشتركة: تتجلى هذه المصالح في التعاون الأمني إذ تتسّق دول اليمين الأوروبي مع الكيان الإسرائيلي في مجالات مكافحة الإرهاب وتبادل المعلومات الاستخبارية. إلى جانب التعاون الاقتصادي إذ تُعدّ إسرائيل شريكاً تجارياً هاماً لبعض دول اليمين الأوروبي، خاصةً في مجالات التكنولوجيا والأسلحة. وكذلك تظهر تلك المصالح المشتركة في حالة التعاطف مع “الحرب الثقافية” حيث يُشارك كلّ من اليمين الأوروبي واليمين الإسرائيلي في “حربٍ ثقافية” ضدّ “التقدمية” و”الليبرالية”.
3. السياق السياسي: يمتد هذا السياق ليشمل:
أ. صعود اليمين في أوروبا: استند هذا الصعود إلى عوامل عديدة، من أبرزها:
أولا: العوامل الاقتصادية: شهدت أوروبا أزماتٍ اقتصادية متتالية، مثل الأزمة المالية عام 2008، أدّت إلى ارتفاع معدلات البطالة وتراجع مستوى المعيشة، ممّا غذّى الشعور بالاستياء لدى فئاتٍ عريضة من السكان، واستغلت الأحزاب اليمينية هذه المشاعر لطرح خطابٍ شعبوي يُعزّز قوميتها الاقتصادية ويُروّج لسياساتٍ حمائية.
ثانيا: العوامل الاجتماعية والثقافية: يُلاحظ تزايد القلق في أوروبا من تدفق المهاجرين واللاجئين، خاصةً بعد أحداث 2015، ممّا أدّى إلى تنامي مشاعر “الإسلاموفوبيا” ورفض “الأخر” المختلف. واستثمرت الأحزاب اليمينية هذه المخاوف لطرح خطابٍ متشدّدٍ مناهض للهجرة يُروّج لفكرة “حماية الهوية الوطنية”.
ثالثا: العوامل السياسية: واجهت الأحزاب التقليدية في أوروبا، يمينية ويسارية على حدٍ سواء، تراجعًا في شعبيتها، ممّا أفسح المجال أمام صعود أحزابٍ جديدة تُقدّم نفسها كبديلٍ عن النخب السياسية “الفاسدة” والعاجزة عن حلّ مشاكل المواطنين. وقد أدّى صعود الأحزاب اليمينية في أوروبا إلى تزايد نفوذها في صنع القرار، ممّا أتاح لها مساحةً أكبر للتعبير عن دعمها للكيان الإسرائيلي.
ب. التراجع النسبي لليسار الأوروبي: شهدت العقود الأخيرة تراجعاً نسبياً في نفوذ الأحزاب اليسارية الأوروبية، والتي كانت تقليدياً أكثر تعاطفاً مع القضية الفلسطينية.
ج. تغيّر المواقف الأمريكية: شهدت الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب تقارباً كبيراً مع الكيان الإسرائيلي، ممّا شجّع دول اليمين الأوروبي على اتّباع خطواتٍ مماثلة.
4. آثار تقارب اليمين الأوروبي واليمين الإسرائيلي على أزمات الشرق الأوسط
أ. دعم الاحتلال الإسرائيلي: يُؤدّي تقارب اليمين الأوروبي مع اليمين الإسرائيلي إلى زيادة الدعم الأوروبي للاحتلال الإسرائيلي وتقليل الضغوط على إسرائيل لحلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ب. تهميش القضية الفلسطينية: يُهمّش تقارب اليمين الأوروبي مع اليمين الإسرائيلي القضية الفلسطينية على الساحة الدولية، ممّا يُعيق فرص إيجاد حلٍّ عادلٍ للصراع.
ج. ازدياد التوتّرات في المنطقة: يُؤدّي دعم اليمين الأوروبي للاحتلال الإسرائيلي إلى ازدياد التوتّرات في المنطقة، ممّا يُهدّد باندلاع المزيد من العنف وعدم الاستقرار.
د. التأثير على قضايا الهجرة واللاجئين: من المتوقع أن تُشدّد الحكومات الأوروبية ذات التوجّهات اليمينية سياساتها المُتعلّقة بالهجرة واللجوء، ممّا قد يُعيق وصول اللاجئين إلى أوروبا ويُصعّب عملية اندماجهم في المجتمعات الأوروبية. وقد تُمارس ضغوطات على دول الشرق الأوسط لاستقبال المزيد من اللاجئين وإعادة توطينهم.
ه. التأثير على عملية السلام الإسرائيلي الفلسطيني: قد تُبدي بعض الحكومات الأوروبية ذات التوجّهات اليمينية ميلاً أكبر لدعم المواقف الإسرائيلية، ممّا قد يُعيق عملية السلام ويُؤجّل إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
و. التأثير على الدعم الأوروبي للقضايا العربية: قد تُقلّص بعض الحكومات الأوروبية ذات التوجّهات اليمينية مساعداتها الإنمائية للدول العربية، ممّا قد يُفاقم من الأزمات الإنسانية والاقتصادية في المنطقة.
ز. التأثير على العلاقات العربية الأوروبية: قد تُؤدّي مواقف بعض الحكومات الأوروبية ذات التوجّهات اليمينية المُناهضة للإسلام والمهاجرين إلى توتّراتٍ في العلاقات مع الدول العربية، ممّا قد يُعيق التعاون في مختلف المجالات.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه ليس كلّ أحزاب اليمين الأوروبي مُتطابقة في مواقفها من الكيان الإسرائيلي، إذ تُوجد بعض الأحزاب اليمينية الأوروبية التي تُنتقد سياسات الاحتلال الإسرائيلي وتُطالب بحلٍّ عادلٍ للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما أن العلاقات العربية الأوروبية مُعقدة ومتعددة الأوجه، ولا يمكن حصرها في تقارب اليمين الأوروبي مع اليمين الإسرائيلي، فهناك العديد من العوامل الأخرى التي تُؤثّر على هذه العلاقات، كتلك التي تعتمد على تطورات الأحداث ومسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
أما تأثير صعود اليمين الأوروبي على أزمة غزة، فإنه لن يغير من الدعم المتوفر للكيان الإسرائيلي بدرجة كبيرة، إلا في حال تزايد الإدانات من القضاء الدولي والدول لجريمة الإبادة، ويمكن أن يؤدي صعود اليمين إلى تركيز الموقف الأوروبي على حل الدولتين، والسير في ظل الولايات المتحدة الأمريكية، أي إن تأثير أي حدث أوروبي على الحرب على غزة يبقى عند درجة محدودة بالتأثير الأمريكي.
واستناداً لما تقدم فإنه من المهمّ التأكيد على أنّ “اليمين الأوروبي” ليس كتلةً متجانسة، بل مجموعة متنوعة من الأحزاب والحركات ذات الأيديولوجيات والبرامج المختلفة، ولا تزال تأثيرات صعود اليمين الأوروبي على أزمات الشرق الأوسط غير واضحة بشكلٍ كامل، حيث تعتمد على سلوكيات الحكومات الأوروبية الجديدة وتفاعلاتها مع دول المنطقة. كما أنه من المُبكر استخلاص نتائج نهائية حول مستقبل العلاقات العربية الأوروبية في ظلّ صعود اليمين، فالمستقبل مرهون بتطورات الأحداث وتفاعل مختلف الفاعلين، فضلاً عن إنّ صعود اليمين الأوروبي يُمثّل ظاهرةً معقدة ذات أبعادٍ متعددة، ومن المُبكر حصر تداعياتها على أزمات الشرق الأوسط. وتحتاج المنطقة إلى استراتيجياتٍ فعّالة لمواجهة التحديات التي قد تُفرزها هذه الظاهرة، وتعزيز التعاون مع القوى الأوروبية المُعتدلة للحفاظ على مصالحها وتحقيق السلام والاستقرار.