د.ابراهيم عيسى العبادي*
أطلق الملك عبدالله الثاني ابن الحسين دعوة ملكية عالمية من خلال نشر مقالة في صحيفة (واشنطن بوست) تحت عنوان ” حان الوقت للعودة الى العولمة ولكن لنطبقها بالشكل الصحيح هذه المرة ” و” لدينا الكثير لنستفيده من اعادة ضبط العولمة ” – انتهى الاقتباس – . يبدو أن انتشار فايروس كورونا قد كشف الغطاء بشكل جلي حول وجود ” مجتمع المخاطر العالمي ” والاضطرابات الناجمة عنه بسبب ما تعرضت له الشعوب والدول نتيجة افرازات العولمة ، فقد بدأنا نلاحظ تراجع مستوى الأمان النسبي وأية ضمانة لدى الشعوب بالبقاء والأعتماد المتبادل ، الى جانب ظهور أنماط غير تقليدية من المخاطر سريعة الانتشار وشديدة التأثير ، وبالمقابل فقد تآكلت نماذج ” الدولة الوقائية ” القادرة على استيعاب المخاطر وحماية المجتمعات ، مما أدى ذلك كله الى الجدل الكبير الحاصل حاليا حول عالم ما بعد أزمة كورونا وعلى وجه التحديد الجدل العالمي حول ” نهاية العولمة ” .
نلاحظ اليوم بأن العالم يعيش حالة ” العولمة المرتدة ” إن جاز التعبير بعدما فرضت أزمة كورونا على الدول تبني إجراءات حادة أدت الى تعطيل شبكات الأتصال والتعاون العابر للحدود بين الدول وبصورة غير مسبوقة عما كنا نشاهد من ذلك الأتصال والتعاون في أزمات مشابهة عابرة او زاحفة عبر الحدود كما في حالات مكافحة الأرهاب واللجوء القسري والهجرة غير الشرعية والتهديدات السيبرانية وغيرها . لقد دفعتنا أزمة كورونا الى معرفة ” الوجه المظلم للعولمة ” وارتباطها الدقيق بالتهديدات التي تواجه المجتمعات ، وربما الذهاب الى أبعد من ذلك باتهام العولمة بالسلبية والمسؤولية الأساسية عن تفاقم أزمة كورونا ، والتي ركزت في كل أحوالها على هيمنة رأس المال والتأثير السريع للأزمات الاقتصادية على الشعوب والدول ، وهذا ما يؤكد “هشاشة العولمة ” التي أفرزت وعززت حجم الضعف في مواجهة الأزمات والقدرة على التكيف معها ، واقتصار “العولمة الهشة ” فقط على سياسات إغلاق الحدود ووقف حركة الطيران وإعلان حالة الدفاع والطوارئ ووقف تصدير الأدوات و المنتجات الطبية اللازمة لمواجهة كورونا وانغلاق الدول على حالها ، كل ذلك من إجراءات يناقض المبادئ الأساسية التي قامت عليها العولمة وعلى العكس فإن هذه الأجراءات تدفعنا بالأتجاه المضاد للعولمة ، حيث تؤكد تقديرات استراتيجية انهيارها وبداية ظهور نظام بديل لها لكنه بقوى مركزية موجهة ومهيمنة بشكل آخر .
لقد أدى انتشار فايروس كورونا الى ضعف وتراجع اعتمادية العولمة وانكشاف الدول أمامها من ناحية أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية ، وعدم قدرة الدول على الأعتماد المتبادل بمفهومه الشامل ، حيث عززت أزمة كورونا سياسات الإنعزالية والتي تؤسس لحالة تراجع في الاهتمام بمنظومة ومعطيات السياسات الدولية والاكتفاء بالتركيز بالدرجة الأولى على المصالح الوطنية ( القومية ) ، وربما الحاجة أكثر للحفاظ على مساحات فاصلة مع الدول الأخرى ، ونجد بأن سياسات الإحتواء للفايروس فرضت الإنعزالية بين دول الأقليم الواحد ، ثم انعزالية ذاتية داخل الدولة الواحدة بين أقاليمها ومحافظاتها ، والنتيجة المحصلة بأن هذه الإنعزالية ستدفع الدول والحكومات الى الحذر والتحفظ من العودة بإتجاه الاندماج والتفاعل الأقليمي والدولي ولفترات زمنية ممتدة قادمة ، وربما أكثر من ذلك بحيث ستدفع بإتجاه إجراء مراجعة جدوى التكامل الأقليمي والعالمي ، وستتطلب هذه الحالة على مستوى الدولة الواحدة ضرورة اتباع سياسات ” الإعتماد على الذات ” ، وهذا ما سيجعل مصير العولمة محل جدل كبير في كل الإتجاهات المضادة لها والتي فرضتها تداعيات أزمة كورونا .
دعوة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين جاءت لدق ناقوس الخطر واطلاق مواجهة أخيرة بلا حدود لإعادة هندسة النظام الدولي الذي يعيش آخر حالاته قبل التحول الى شكل آخر ، وبعد أن جاءت جائحة كورونا كحدث عالمي من بين الأحداث الكبيرة المؤثرة بشكل جوهري والتي ستدفع الى اعادة ترتيب الأوضاع أمام تداعيات قادمة بعيدة المدى ، بحيث قد تؤدي الى نهاية حتمية للعولمة على شكلها الحالي وتوجه الدول الانتقال بشكل أساسي من الاعتماد المتبادل الى بناء القدرات الذاتية لتوفير الاحتياجات الأساسية مع الاستعدادت لدى كل دولة لأمتلاك قدرات أكثر فاعلية لمواجهة حالات الإنعزالية التي قد تمتد لحالات مشابهة مرة أخرى . هنا نلاحظ بإن ” قومية كورونا ” القادمة هي التي ستحدد حالة الإرتداد في هيكل وشكل العولمة ، فالدول والشعوب تعيش مجموعة من التهديدات بدأت مع ظهور الأرهاب ووصولا الى فايروس كورونا ، الأمر الذي سيشكل حالة اندفاع لدى بعض الدول لأتخاذ قرارات تنطوي على المخاطرة والانتقال من ادارة الأزمات الى ادارة القدرات . ويحضرني هنا ما ذكره مؤخرا مدير مركز ” تشاتام هاوس Chatham House ” للأبحاث والمعروف رسميا بإسم المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن روبن نيبليت حيث اعتبر فايروس كورونا ” القشة التي قصمت ظهر العولمة ” ، ونقول إننا أمام حالة “عولمة المخاطر” والتي ستفرض الشكل الجديد للعالم .
*باحث ومحلل استراتيجي
*المدير العام للمركز الوطني للقيادة والتنمية المستدامة