يتعاقب الكشف عن المزيد من التفاصيل المذهلة في قضية الفساد الأخيرة داخل هيئة الضرائب في العراق، وانطوت على سرقة أمانات ضريبية مودعة في مصرف الرافدين الحكومي، بقيمة 3,7 ترليون دينار عراقي، أو ما يعادل 2.5 مليار دولار أمريكي. وقد سُحبت هذه الأموال خلال الفترة بين 9 أيلول/ سبتمبر 2021 و11 آب/أغسطس 2022، وبذلك فإنّ سحوباتها استغرقت زمناً غير قصير، وهذا يعني أن السرقات تمت بعيداً عن أي رقابة جدية، واتخذت طرائق مختلفة لم تجد عوائق جدية تحول دون توقيفها أو فضحها.
وكي يدرك المواطن العراقي حجم هذه السرقة بمعنى حاجاته الإنسانية والتعليمية والتنموية، قال بيان صادر عن المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق إن الأموال المنهوبة تكفي لبناء أربعة آلاف مدرسة حديثة، أو بناء أربعين ألف شقة في تجمع سكني، أو بناء محطة كهرباء تتكفل بتأمين ثلاث محافظات، أو تسديد رواتب جميع الموظفين والمتقاعدين وشبكة الحماية الاجتماعية على مدى شهر كامل. أما المصادفة الأكثر مرارة فإنها افتضاح كارثة فساد أخرى جديدة في توقيت مميز هو الذكرى الثالثة لانتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 2019، التي كان شعارها الأبرز محاربة الفساد وفضح اللصوص.
وبالطبع كان الأسهل على السواد الأعظم من ساسة العراق وقادة الأحزاب والميليشيات أن يسارعوا إلى إدانة الفضيحة، وأن يتسابقوا في إبداء الحرص على أموال الشعب العراقي وصيانة ثرواته الوطنية، والمطالبة بتقديم اللصوص إلى القضاء من دون إبطاء. لكن أياً من هؤلاء لن يتطوع إلى إعلام المواطن العراقي بأسماء أصحاب الشركات التي حُولت إلى حساباتها تلك المليارات والترليونات، أو الكشف داخل الهرم الأعلى للنظام عن رعاة تلك الشركات والجهات التي تساندها وتحفظها من المحاسبة والقضاء، أو السلطات الوزارية أو الإدارية التي خولت المصرف بصرف صكوك هائلة القيمة أو حتى اعتمادها في الأساس.
لافت إلى هذا أن تبريرات هيئة النزاهة بدت أكثر غرابة من إيضاح الجهات القضائية حول أسباب التأخر في كشف تلك السرقات أو توقيفها على مدى 10 أشهر، وكلاهما تبارى في الضعف مع بيان المصرف المعني الذي نفى أية علاقة له بالفضيحة لأن مهمته انحصرت في صرف صكوك الهيئة بعد التأكد من صحة إصداراتها بموجب أوراق رسمية. وفي واقع الأمر فإن مواقف الجهات الثلاث لا تقوم بأكثر من تأكيد نطاق الفساد والإفساد، والمقدار المريع من التكامل في التعاون بين أجهزة الدولة لتمرير الفساد أو تغطيته أو التنصل منه إذا دعت الحاجة.
ولم يكن غريباً أن الفضيحة الأحدث تكشفت بعد أن توصل ساسة العراق إلى تفاهم ابتدائي، لا يزال محفوفاً بالمخاطر وإمكانية الانتكاس والانقلاب إلى الضد، حول استحقاقين دستوريين طال أمد انتظارهما، هما انتخاب رئيس للجمهورية وقيام الرئيس الجديد بإسناد مهمة تشكيل الحكومة إلى محمد شياع السوداني مرشح الإطار التنسيقي. وهذا تزامن يفيد حقيقة مريرة باتت سمة أساسية في الحياة السياسية العراقية ما بعد الاجتياح الأمريكي سنة 2003، مفادها أن ساسة تحالف النهب يمكن أن يختلفوا حول كل شيء، ما خلا تغطية صكوك السلب.