بقلم: سماهر الخطيب
في سباق الأحصنة تداول عادة المراهنة على الحصان الرابح ومن يربح الرهان يحصل على النقود لا على الحصان، أما في لعبة الشطرنج فإن اللاعب الجيد يحاول دائماً الحفاظ على الحصان باعتباره القطعة الوحيدة التي يمكنها أن تقفز فوق القطع، وفي رقعة الشطرنج الدولية يشكّل الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان ذاك الحصان، وفي العقلية الروسية ورغم عدم إدمانها على المراهنات كنظيرتها الأميركية والغربية لكنها دخلت الرهان على الحصان التركي، ولم تأخذ النقود بل ستأخذ النفوذ باعتباره هو نفسه الحصان في رقعة الشطرنج، وبالتالي فإنّ بقائه في هذه المرحلة الحرجة من الربع الأخير للتحول الجيوسياسي العالمي والفصل الأخير من استكمال النظام العالمي الجديد يتطلب تثبيت الدعائم التي حفرت أساساتها وفق استراتيجيات واضعيها الشرقيين فإن اللمسات الأخيرة لإنهاء بناء النظام الجديد تتطلب بقاء أردوغان رئيساً لتركيا عملاً بالمثل العامي القائل (يلي بتعرفوا أحسن من يلي بتتعرف عليه) وهذه الخطى النهائية لا تحتمل صدمة خارجية تعيد خلط الأوراق الإقليمية وكذا الدولية..
لذا فإن فوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بولاية جديدة يندرج ضمن ما ذكرناه أعلاه وبالتالي يعود بالفائدة تحديداً على روسيا خاصة وأنّ أستراتيجيته الطموحة تلاقت مع طموحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عند البحر الأبيض المتوسط وما يشكله هذا البحر من قيمة جيوبولتيكية للبلدين بدءاً من الطاقة الكامنة في البحر أو طرق الإمداد العابرة حكماً منه وليس انتهاءاً بالملاحة البحرية وما يشكله من خط عبور يربط الشرق بالغرب ومنه تعبر الحبوب والتقنيات التكنولوجية وهو ما تبحث عنه الصين من شرق آسيا إلى شرق أوروبا عبر المتوسط أيضاً..
تلاقت الرؤى ووضعت الأهداف وحددت المسارات ورسمت الخطط وبدأت التكتيكات الاستراتيجية تنسج علاقاتها في محاورها الشرقية بدهاء وحنكة ورباطة جأش وثبات وببرودة أعصاب صينية، ونفاذ صبر روسي ترجم بالعملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا وإدارة لملفات الصراع في المنطقة الآسيوية من نسيجها فكان التقارب السعودي الإيراني في بكين الجناح الآسيوي من عاصمة القرار الشرقي ليبدأ مسار تقارب سوري تركي في موسكو الجناح الأوراسي من عاصمة القرار الشرقي بعيداً عن الإملاءات الغربية وقيودها الجمركية..
ما يعني تثبيت دعائم الإقليم برباعيته (إيران، السعودية، سورية وتركيا) بعلاقات ودية قائمة على حسن الجوار والاحترام وتصفير المشاكل ودرء المخاطر والبدء بتنفيذ المشاريع التنموية وفق مبدأ جيواستراتيجي بات معروفاً روسياً وصينياً قائماً على معادلة (رابح – رابح)..
بمعنى أن العاصمتين اليوم في تحالف استراتيجي سيمتد لمئة عام ستأتي بعد أن أعلن تمرده على مئة عام مضت ليبدأوا معاً بـ”تصحيح التاريخ” وهو ما حدث وسيقرأ الأجيال في الكتب كيف كان القرن غربي وكيف بات شرقياً وما أرادوه في منطقتنا العربية من ربيع عبري سينقلب ربيعاً غربياً ليس بدءاً من تفكك الاتحاد الأوروبي وليس انتهاءاً بتفكك الولايات المتحدة ويمكن لمتتبع السياسة الأوروبية والأميركية بجميع مناحيها الاقتصادية والاجتماعية والتشريعية وحتى النقدية أن يلحظ اقتراب “الانهيار” وما كان “بريكست” والطلاق البريطاني سوى الحبة الأولى من السبحة الأوروبية، وما كانت محاولات ولايات أميركية منها تكساس مؤخراً المطالبة بالاستفتاء على الاستقلال عن الولايات المتحدة الأميركية سوى أول الغيث قطرة..
وفي العودة إلى أردوغان وحضوره في المرحلة الراهنة فهو السياسي الفذ والبارع في تلقف الفرص كما أنه شخصية براغماتية تتمتع بهامش وافر من الاستقلالية وقادر على تجاوز قرارات الحلف الأطلسي وحكماً الأميركية المتعلقة بالشؤون الإقليمية والدولية والقفز عنها (الحصان في الشطرنج) رغم عضوية بلاده في الناتو وجيشها ثاني أكبر جيش في الحلف بعد الجيش الأميركي، وظهرت قفزاته جليّاً في الخطوات التي اتخذها في الملفين السوري والأوكراني، وكان واضحاً الإنزعاج الأميركي والأوروبي من تلك الخطى..
وربما تقديم البرلمان الأوروبي في العام الماضي، لملف رفض تركيا فرض عقوبات على روسيا وتحولها إلى “مركز عبور” روسي، كـ(موضوع منفصل للنقاش) كان أحد الأمثلة عن الإنزعاج الغربي من التصرفات التركية.
وهذا دلالة واضحة على أنّ وجود أردوغان في سدة الحكم بات ضمانة لاستمرار وتعزيز التفاهمات القائمة بين موسكو وأنقرة، والتي تم التوصل إليها بعد “مخاض معقد” دخلته العلاقات الثنائية، وبذلت موسكو خلاله الكثير لترويض الحصان التركي لاسيما في الملف السوري بعد أن كان عنصراً أساسياً في التصعيد ودعم الإرهاب على الأرض السورية، بات اليوم في الخطوة الأخيرة من التهدئة والتي تسعى إليها موسكو بضمانات لسورية لانسحاب قواته الاحتلالية من شمال شرق الفرات والعودة إلى مفاعيل (أضنة 98)..
أما في الملف الأوكراني، فقد أصبحت تركيا برئاسة أردوغان أكثر أهمية بالنسبة لروسيا بعد بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بدءاً من تحولها إلى سوق حيوي بشكل متزايد للمعادن الروسية، واشترت من النفط الروسي عام 2022 ما يقرب من ضعف كمية عام 2021. وليس انتهاءاً بالدور اللوجستي المهم الذي لعبته بموقعها الجيوبولتيكي حيث تمرّ سفن الشحن الروسية عبر مياهها إلى البحر الأبيض المتوسط، وربما جاءت مبادرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمد خطوط أنابيب غاز إضافية من روسيا إلى تركيا، وإنشاء مركز للغاز في البلاد نتيجة لتلك التطورات.
في المقابل، تعتبر روسيا مهمة بالنسبة لتركيا كمصدر لموارد الطاقة، وبات التركي شاري بدرجة (VIP) للغاز الروسي وبائع رابح للأوروبي، وهو ما يساهم في الحفاظ على الاقتصاد التركي من الإنهيار (رغم تدني مستوى العملة التركية، مؤخراً، إنما هذا التدني ناتج عن مضاربات في سوق الصيرفة من جهة، وهبوط سياسي متعمّد غربياً نتيجة السياسات التركية اتجاه روسيا، وبالتالي يمكن السيطرة عليه وتثبيت سعر الصرف)، إضافة إلى حيوية القطاع السياحي التركي فهو يشكل حوالي 10% من الناتج المحلي الإجمالي التركي، ويمثل المواطنون الروس أكثر من 10% من التدفق السياحي وهذا أمر مهم لتركيا.. ناهيك عن نجاح “صفقة الحبوب” وما تعكسه على الاقتصاد التركي باعتبار روسيا وأوكرانيا هما مورّدا أغذية رئيسيان لتركيا، وباعتبار نجاح هذه الصفقة يسمح بتوريد المنتجات الزراعية من الموانئ الأوكرانية بموافقة روسية – أممية ورعاية تركية ومنها إلى الدول المحيطة ليترسخ الحضور التركي “تجارياً” مستفيداً من موقعه الجيواستراتيجي..
في المحصلة، فإنّ السياسة التي يتبناها أردوغان لا تزال راجحة في الميزان الروسي، خاصة وأنه أحد السياسيين الذين يمتلكون القدرة على الـ”توأمة” ما بين الاستقرار في الأوضاع الداخلية وتسوية الملفات الخارجية الإقليمية والدولية بما ينعكس إيجاباً على ازدهار دولته قبل كل شيء (رغم التحفظ على أطماعه العثمانية) غير أنه رجل سياسي محنك يعرف جيداً مقاربة الملفات وانتهاز الفرص وتدوير الزوايا بما يتوافق مع مصلحة بلاده..
فيما يبدو فقدان الولايات المتحدة لمكانتها الرائدة في العالم بشكل تدريجي، ويتضح ذلك مع اتباع العديد من حلفائها سياسة مستقلة دون اعتبار لرد الفعل الأميركي (السعودة أنموذجاً)، في مقابل تنامي دور الصين والهند والبرازيل، وكذلك تركيا، مما يصب في المحصلة بمصلحة موسكو.
وفي العودة إلى الملف السوري، الذي بات في خواتيمه وفق الدبلوماسية الروسية لإدارة الأزمة السورية والتي بدأت بخطاها مع بدء الأزمة فكان الدور الروسي واضحاً في جنيف وقرار 2254 وفيما بعد في سوتشي وأستانا ليدخل مرحلة دبلوماسية القوة في عاصفة السوخوي 2015 وامتصاصه للضربات التركية – الأميركية في إسقاط الطائرة الروسية وكذا اغتيال السفير الروسي لينتقل إلى الإدارة الدبلوماسية للمعارك في حلب والغوطة وتحييد تركيا عن دعم الفصائل الإرهابية وصولاً إلى حصرها في شمال شرق الفرات لتكون الخطوة الأخيرة في الإدارة الدبلوماسية الروسية للأزمة السورية ومساعيها الحثيثة في إغلاق “صندوق باندورا” الذي فتحه الأميركي في الأرض السورية وفكفكة عقد الأزمة عقدة – عقدة وصولاً إلى العقدة النهائية المتمثلة بالانسحاب التركي ورغم أنّ اللقاءات الرباعية برعاية روسية لم تثمر حتى اليوم عن اتفاق وفق الشروط السورية البديهية لأي لقاء بين الرئيس السوري بشار الأسد ونظيره التركي وصعوبة استحصال على هذه الشروط اليوم مع نشوة النصر الأردوغاني بعد أن كانت في الميزان السوري أي لقاء قبل الإنتخابات سيكون ورقة رابحة لتركيا في حين كان من الممكن تنظيم انسحاب وفق تسلسل زمني بضمانة روسية ربما ولطالما كان الصديق الضامن لسورية طيلة عقود، فإنّ نشوة أردوغان اليوم ربما ستدفعه إلى البقاء في الشمال ما يشد وثاق هذه العقدة الأخيرة ويعقّد آلية الحل، وليس البقاء فقط بل نحو تغيير ديموغرافي لشمال شرق الفرات بحجة تحييد الخطر الكردي وترحيل اللاجئين السوريين الموالين لتركيا نحو تلك المنطقة ليصار فيما بعد سيناريو الإستفتاء على الاستقلال وتكرار خطأ التاريخ في الشمال السوري فترة الحرب العالمية الثانية بضم “السناجق الشمالية” وكان آخرها لواء اسكندرون وفق استفتاء لم تعترف به الحكومة السورية وتمخض عنه سلخ اللواء عن الأراضي السورية وضمه لتركيا..
وهنا نعوّل على الإدارة السورية في ترجيح كفة المصلحة السورية واتخاذ قرارات تتماشى مع مصلحة الشعب السوري ودرء المخاطر المحدقة بأرضه واستثمار الفرص وفق تلك المصلحة العليا، والتوأمة السورية – الروسية في إدارة الملفات ذات الإهتمام المشترك حُكماً ستعود بالفائدة على سورية خاصة وأنّها كانت إدارة ناجحة وكانت صديقة وفية بوعودها وضماناتها حتى اللحظة ما يعني أنها شريك ذو ثقة والتجربة أثبتت صدق النوايا الروسية في تحييد المنطقة عن الأطماع الأميركية، ولا نقول “الارتماء” في الحضن الروسي إنما نقول انتهاز الفرصة لترسيخ سيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والعمل على الشراكة التنموية وفق المعادلة الربحية..
وختاماً نهنئ الشعب التركي على اختياره (رغم التحفظ) إنما هي إرادة شعب ونحن نؤمن بإرادة الشعوب ونحترم تلك الإرادة..
*سماهر عبدو الخطيب – كاتبة صحافية وباحثة في العلاقات الدولية والدبلوماسية