كيف يمكن أن تخسر الولايات المتحدة العراق؟
هناك معركة للنفوذ في العراق اليوم، وإيران هي المنتصرة.
مايكل روبن
تعد سفارة الولايات المتحدة في بغداد أغلى وأكبر سفارة في العالم ، وهي اكبر من سفارة الولايات المتحدة في بكين بعشرة أضعاف. مجمع بغداد – الذي يتضمن محطة توليد الكهرباء الخاصة به ، ومحطة معالجة المياه ، وحوض سباحة أوليمبي – كلف بناؤه وتجهيزه أكثر من مليار دولار. من الناحية النظرية ، يعمل هناك أكثر من ألف دبلوماسي ومسؤول من وكالات اميركية مختلفة ، وإذا أضفنا الطواقم الأمنية فإن الرقم سيتضخم إلى ثلاثة أضعاف.
ومع ذلك ، بعد أكثر من عقد على نشاط الدبلوماسيين الأمريكيين في بغداد ، لم يكن النفوذ الأمريكي في العراق بهذا الضعف. صحيح أن النفوذ انخفض مع الوجود العسكري الأمريكي ، لكن هذا لا يفسر كل ذلك الضعف. اشتكت أجيال من الدبلوماسيين من الموارد ، بحجة أن الاستثمارات الدبلوماسية الصغيرة قد توفر المال على المدى الطويل و تجنب التدخلات العسكرية في المستقبل. واليوم، يبذل الوجود الدبلوماسي الأمريكي في العراق قصارى جهده لتقويض هذه الفكرة التقليدية. أصبحت السفارة الأمريكية في بغداد كيانًا موجودًا لتلبية احتياجاتها الخاصة فقط، منعزلة عن المدينة المحيطة بها.
قبل عقد من الزمن، كان العراق مكانا خطيرًا. ربما مازال كذلك في بعض النواحي. ولكن ، من جهة أخرى ، شهد العراق منذ عامين نهضة جديرة بالإشارة و انخفض العنف بشكل كبير. في أواخر العام الماضي، انخفض عدد الضحايا المدنيين الذين قتلوا أو جرحوا في حوادث إرهابية أو عنف سياسي إلى درجة أن الأمم المتحدة توقفت عن نشر التقارير الشهرية التي كانت تصدرها بشكل مستمر.
لم يهدم رئيس الوزراء عادل عبد المهدي الكثير من الجدران الكونكريتية وأزال نقاط التفتيش التي تسببت في اختناقات في جميع أنحاء بغداد وحسب ، ولكنه رفع أيضًا القيود المفروضة على الوصول إلى مطار بغداد ، مما سمح للزائرين بالدخول بسياراتهم إلى المطار وتوديع أقاربهم وأصدقائهم مثلما يفعل الناس في أي مطار آخر في الشرق الأوسط. وقد أدت العودة إلى الحياة الطبيعية في ازدهار المطاعم والحياة الليلية في جميع أنحاء العاصمة. تعج المقاهي التي افتتحت في ارجاء المدينة بالرجال والنساء والشباب وازداد عدد الفنادق لاستيعاب تدفق الزوار ورجال الأعمال.
ازدادت اعداد الملاهي الترفيهية، واتسعت شعبية مواقع التواصل الافتراضي. سوق الكتب في شارع المتنبي مكتظ كالعادة على الرغم من كل الحديث عن الإسلاموية المتنامية في العراق، عاد الكحول إلى السوق الحرة في بغداد. وفي شارع أبو نواس – عبر نهر دجلة في الجانب الآخر من مجمع السفارة الأمريكية – تسهر محلات الشواء الشهيرة والسمك المسقوف، وعلامة التأثير الإيراني الوحيدة تتركز في بعض المطاعم الفارسية الراقية التي تتنافس مع المطاعم العائمة التي تقدم المأكولات العراقية واللبنانية التقليدية .
الحقيقة الوحيدة في بغداد هو أنه خلال عام أو عامين من وجودهم في العراق ، لن يتمكن معظم الدبلوماسيين الأمريكيين من الاستمتاع بالولادة الجديدة لبغداد. معظم الدبلوماسيين الأمريكيين غير مسموح لهم بالخروج من مجمع سفارتهم المحصنة. يخضع العديد من المتعاقدين الأمريكيين لقيود أمنية مماثلة ، ولا يمكنهم مغادرة فندق بابل روتانا، والذي أصبح أشهر سجن فاره في بغداد. في حين أن معظم المسؤولين العراقيين، ناهيك عن عدد واسع من السكان، لا يمكنهم مشاهدة اي دبلوماسي أمريكي في شوارع بغداد، فيما يجول الدبلوماسيون الإيرانيون والأتراك بحرية.
يزداد عدد الدبلوماسيين الأوروبيين الذين يسمح لهم بزيارة بعض الأحياء الآمنة في بغداد – كالجادرية ، العرصات ، المنصور ، القادسية ، والكاظمية – بمواكبة أمنية صغيرة للغاية إن وجدت. ببساطة ، حتى شركاء أمريكا يدركون أن معظم احياء بغداد اليوم باتت آمنة مثل أنقرة أو إسلام أباد أو بيروت.
سيدافع ضباط الأمن بوزارة الخارجية عن إجراءات منع الدبلوماسيين من التنقل في بغداد للحفاظ على سلامتهم، وهو اجراء منطقي ولكن المبالغة في تطبيقه سيمنع الدبلوماسيين من القيام بوظائفهم وهذا ما يحدث لهم في بغداد. وبالرغم من الاستثمار الذي وضعه الاميركيون لبناء الديمقراطية والازدهار في العراق ، الا ان معظم المسؤولين الأمريكيين الذين يزورون بغداد لا يمكنهم سوى التعامل مع المسؤولين التنفيذيين العراقيين فقط: الرئيس برهم صالح أو رئيس الوزراء عبد المهدي على سبيل المثال. لاحظ برلماني عراقي أمس أن الدبلوماسيين الأمريكيين لا يزورون مبنى البرلمان أبدًا، على الرغم من أن المبنى آمن ولا يبعد سوى نصف ميل فقط من مبنى السفارة الأمريكية.
ماذا عن المؤتمرات في فندق الرشيد؟ انسَ العثور على أي دبلوماسي أمريكي هناك. يحصل الدبلوماسيون الأمريكيون في بغداد على رواتب مرتفعة تتضمن حوافز إضافية كبدل خطورة وبدلات السفر، لكنهم قد يحققون نتائج مشابهة فيما لو قاموا بنفس العمل عبر سكايب من واشنطن.
هناك معركة للنفوذ في العراق اليوم ، وإيران هي المنتصرة فعليا. تساهم الميليشيات المدعومة من إيران في تضخيم مخاوف وزارة الخارجية الاميركية من خلال إطلاق قذائف الهاون باتجاه القنصلية الأمريكية حينها تقرر وزارة الخارجية ببساطة التخلي عن موقعها بالكامل. وعندما يصرح المسؤولون العراقيون بأنهم لا يسعون إلى الحصول على المساعدات بل يشجعون الاستثمار الاقتصادي الأمريكي داخل العراق ترد وزارة الخارجية بتكرار التحذير من السفر إلى العراق وهي تحذيرات عفى عليها الزمن وتنطوي على المبالغة في كثير من الأحيان لانها تُبقي على معدلات التأمين مرتفعة وتثني رجال الأعمال المهتمين عن الاستثمار في العراق.
إن ذهاب عادل عبد المهدي إلى الصين مع ستة عشر محافظا عراقيا يدل على حاجة عراقية ماسّة لجذب الاستثمارات في وقت تتبنى فيه إدارة ترامب ووزارة الخارجية ويال المفارقة خطابا يدعم الأعمال التجارية الأمريكية.
يمكن لمنتقدي السياسة الأمريكية في العراق إلقاء اللوم على الرئيس جورج دبليو بوش في قرار الحرب على العراق لانه مكّن إيران من السيطرة على ذلك البلد، لكن هذا هذا الطرح فيه تبسيط مبالغ فيه. إذا خسرت الولايات المتحدة العراق لصالح النفوذ الإيراني، فذلك بسبب السياسات الحذرة لوزارة الخارجية الاميركية التي هزمت دون شك نفسها بنفسها، ناهيك عن عجز حكومة الولايات المتحدة عن الاستفادة من أعظم قوة تمتلكها – الاستثمار والصناعة الأمريكية – لتحقيق النفوذ، انها خطيئة الإدارات الاميركية المتعاقبة والمشرعون في الكونغرس الذين اهملوا ذلك ولم يكترثوا اليه.