ماذا بعد داعش وانحساره
بقلم : حيدر سلمان
نعلم جيدا ان تنظيم “داعش” الارهابي على شفا انهياره في آخر الجبهات العسكرية، لكننا كذلك نعلم أنه ستستمر خلاياه السرية والنائمة او ما تسمى “الضباع المنفردة” في النشاطات التفجيرية والاغتيالات، لكنه لن يعود قادرا على احتلال مساحات وفتح جبهات كما كان مجددا.
انتهت أرض الخلافة
بعد كل هذا الدم والتشريد والدمار الذي لحق بكثير من بلداننا خاصة العراق وسوريا ومصر، كيف سيبدو المشهد على مختلف المستويات العربية وغير العربية في الشرق الأوسط خاصة ودولهم؟
هذا المشهد يخلف ذكريات ومأسي ستبقى طويلا ً تحت وطأة المأساة الضخمة التي لحقت بالناس والبنى التحتية والعلاقات الاجتماعية، وطريقة التفكير وسبل تناول علاجات الأزمات على المدى البعيد.
نعم لقد خلفت احزان والام تلقي بظلالها على اغلب تلك الذكريات والتفكير والنظرة العامة إلى الحياة، حتى التطلعات والفهم والمفاهيم ستصطدم مع التجارب الأليمة المريرة التي مر بها الإنسان العراقي او السوري على حد سواء. نعم لقد وقع الفأس في الرأس وتلك الدروس ستُستقى من تجارب جلها مؤلم وحاضرها غزير بالمخلفات ومستقبلها خوف عودة الفكر المظلم، أساسا من تفاعل الإنسان العراقي مع الحدث الدموي المدمر الذي مر به تاركا أيتام وثكالى ومختطفين ومن هم بحاجة الى اعادة تأهيل لمحو الفكر الظلامي الذي زرع فيهم خاصة في من خطف على صغر.
نسأل دوما حول ماهية التحولات الفكرية والعقلية التي من المتوقع أن تنشأ على الساحة العربية عامة والعراقية خاصة بعد اجتياح ذاك الفمر اغلبية شعوب منطقتنا مقسمة اياه بين محايد وبين مضاد وبين مؤيد لايمكن نكرانه. وماهي التحولات أخرى ستطرأ على الأنظمة السياسية وعلى الفكر والفقه الدينييْن، وعلى مختلف السياسات التي تُمارس عليه أو من أجله.
هل ماحدث شابه بشكل ما ماحدث في مراحل اقتتال اوروبا الوسطى؟
بالطبع ليس شرطا ولكنها سيرة تاريخية مرت بها العديد من الأمم وعلى رأسها الأمم الأوروبية. ففي عدة مراحل اقتتل الأوروبيين فيما بينهم داخليا وخارجيا، وشنوا حروبا بعضهم ضد بعض، وسفكوا الدماء ودمروا البيوت وشردوا الناس واغتصبوا النساء، وخربوا المصانع والمزارع وعاثوا في الأرض الفساد.
شهدت إسبانيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا صراعات دموية قاسية، في حروب بعضها ضد بعض ولا نضرب المثل بأوروبا الوسطى فقط ونحن نذكر دوما نشوب حربان عالميتان مدمرتان في قلب أوروبا. وبعد كل هذه الدماء اكتشف الأوروبيين بعد كل الأحزان والآلام التي حلت بهم و أنهكتهم وفتت مجتمعاتهم وأهلكت حرثهم وزرعهم أن الصراع الدموي لا ينتهي ما لم تتراجع رغبات الثأر ونزعات الانتقام لصالح العقل.
ماذا أدرك الأوروبيين بعد كل هذه الدماء؟
ادركوا أن الحروب لا نهاية لها ما لم يتحكم العقل بالسلوك من أجل السيطرة على الانفعالات والنزوات والنزعات القومية والمذهبية والطائفية. ما ذكرت من الأيديولوجيات سيطرت فترة طويلة على الأوروبيين وقادتهم للمصائب والنوائب، مما أجبرهم على التوقف عن الانسياق انفعاليا واخذ استراحة من أجل التفكير بما هم فيه.
هل هناك في منطقتنا تجربة مماثلة؟
نعم لبنان مثالا؛ والكل يتذكر الحرب الأهلية التي استمرت سنين طوال أذاقتهم الويلات، لكن التجربة فعلت العقل الإنساني اللبناني وانتجت دولة متعايشة بشكل مقبول بشكل أو بأخر وتقبل اجتماعي جيد و وقوف ضد التدخلات الخارجية التي تحاول بشكل يومي أن يكون لها موطئ قدم هناك.
وعندئذ برزت كلمة أن لبنان للجميع ولا أحد يستطيع إلغاء الآخر. فانتقل الإنسان إلى حالة العقل التي تعترف بالآخر بعد ان كانت محو الآخر ومحو وجوده.
نعم هي الآلام التي تشكل غذاء للعقل و تحفزه وتوقظه لكي يقوم بدوره في تدبير الأمور بطريقة تؤدي للتقدم وليس فقط الاندحار للاخر باي شكل ممكن، وعلينا ان نتذكر ان الشعوب الانفعالية لا تتمكن من تحقيق تقدم أو تتطور لتحقق الأهداف، و دائما ما تكون عرضة للأزمات الداخلية ومايترتب عليه من الأطماع الخارجية. وهذا بالضبط هو سيادة العقلانية وايقاف سرعة الاندفاع إلى الأمام، مع إيقاف الانسياق وراء مغامرات غير محسوبة تؤذي المجتمعات باكملها وربما تنتج ما هو أسوأ من “القاعدة” و “داعش”.
لايختلف اثنان ان الأمة العربية اصطلاحا، كانت فعلياً بحاجة إلى زلزال دموي يُخرجها من الانتقامات والانفعلات بسبب عته قياداتها ونحن نتذكر جنون قيادتنا العراقية السابقة كمثال وما اوصلتنا اليه. ولا يمكن نكران أنه لم يكن من الوارد أن يفكر الحكام بعقولهم في دولنا العربية وحتى ما جاورها لما يحدث من أحقاد تتعاظم بشكل أصبح طافياً للعلن، عندئذ كان لابد من سحق انفعالات الشعوب وحكامهم بدمائهم. لانه غالبا ما يؤدي تفاعل العقل مع التجارب المؤلمة إلى تقوية إرادة العقل على حساب التفكير العصبي بعد صدمة الألم. اوكان واجباً أن تنتهي هذه الدماء التي نزفت إلى تقوية سلطة العقل على حساب سلطة العضلات والانفعالات والتخندقات والصراعات التي لا نهاية لها.
وكثير منا ككتاب ومحللين ومثقفين متفائلين ان هذه هي أهم نقطة فيما نتوقعه بعد انهيار “داعش” وحتى التنظيمات المتمردة على الأنظمة ذات أطر دينية متطرفة.
حيث المتوقع أن يشهد مستوى تفكير الناس استدارة ولو متوسطة لينتقلون من عالم الأوهام والتبعية التامة إلى عالم استيعاب الأمورعلى قاعدة التعايش السلمي أو الغرق بدماء لانهاية لها، وفقا لمعطيات ان كمية الدماء التي نزفت لم تكن كافية لإنضاج البحث عن العقلانية في تدبير الأمور.
ما أريد أن أصل إليه؛ إن الشعوب بحاجة في كثير من الأحيان إلى الصدمة كي تستفيق، والعديد من شعوب الغرب خبرت الصدمة وعاشتها وكانت تشكل تحدي فعلي دفع الناس هناك للاستجابة بتفكير جديد وسلوكيات جديدة تتلائم مع ما طرحته.
للاسف الحكام العرب لم يعوا معنى الصدمة والتعامل معها ولكنهم كانوا يبدعون في كيفية صناعتها من أجل البقاء في حكمهم أطول زمن ممكن، بل ربما يكون أغلبهم ساهم في صناعة صدمات إحباطية ألحقت أذى كبيرا بالأمم التي حكموها ما فجر ربيعا عربيا اشبه مايكون بالخريف انتج كل أنواع التطرف وحركاته.
نتذكر جيدا المحتجين من الناس كيف اندفعوا الى الشارع بربيع مشوه دون أن يعرف أهل الشارع بماذا ينادون أو ماذا يريدون في كثير من الأحيان تحت وطأة اعلام محرض بشتى الوسائل، حيث كان من السهل سوق الناس إلى مواقف يرغب فيها بعض المغرضين وتلم الوسائل الاعلامية التي ذكرتها.
لكن اصبحت عملية التعامل مع الناس كقطيع أكثر صعوبة من قبل تلك الحكام. و الكثير من الناس في الساحة العربية كانوا يهتفون لهذا الحاكم أو ذاك القائد تحت عدة مسميات اشهرها القائد الضرورة وغيرها، والآن سيجد العديد من الناس أنفسهم غير راغبين في الانقياد السهل، أو ربما سيفكرون قبل اتخاذ خطوات عملية في الشارع. بمعنى أن مستوى السذاجة الشعبية هبط كثيرا ولكنه يبقى موجودا في طبقات المجتمع مع غياب التعليم وسيادة العشيرة والطائفة وعلماء دين محرضين ووسائل إعلام مجندة لإبقاء من تريد بقائهم.
كما أن الخروج من دائرة السذاجة سيشمل الأمور الدينية والفهم العام للدين الإسلامي. لقد اهتزت أركان الدين الإسلامي في خضم الأحداث الدموية القاسية بالعراق وسوريا، ودفع الاهتزاز مسلمين وغير مسلمين إلى التساؤل عن مغزى أن يكون الإسلام دينا.
نعود لأصل المقال، للأسف إن الملايين في العالم باتوا يرون الإسلام دين إجرام وقتل وسفك دماء، وكثير من المسلمين اصبحوا يتماشون مع هذا الطرح لما رأوه من نشوز وسلوك بعيد عن الدين الإسلامي، بل يشوهه ويرسم له صورة بشعة في حركات طرحت نفسها ثائرة و حامية وتبين انها ارهابية ومتطرفة وقاتلة وسابية ومغتصبة.
نتمنى ان ما حدث سيحفز المفكرين الإسلاميين على المزيد من البحث والتدقيق في النصوص الإسلامية والتفسيرات المختلفة التي تناولت القرآن الكريم. ونتمنى ان يراجعون أنفسهم في كثير من الفتاوى التي ظنوا دائما أنها في خدمة الدين الإسلامي والمسلمين عموما وتبين انها سبباً لنشوء حركات التطرف تلك.
انا شخصيا واثق اننا سنشهد مشادات بين المفكرين والفقهاء، سيتمسك فيه الفقهاء بالماضي والتفاسير التقليدية، بينما سيسعى المفكرون للخروج من دائرة التقليد إلى أفق العقل والمنطق والإنسانية التي تتمدد وتتسع مع الزمن على حساب أفكار ظلامية كلما خفتت فترة ظهرت بشكل آخر و كأنما هناك من يستنهظها بتعمد لخراب ديارنا.
فيما يستند الحكم الشرعي إلى نصوص إسلامية واضحة. ربما سيواجه الحكم الفقهي أزمة لأنه سيُحشر في زاوية علمية لا يستطيع تحديها إلا بلغة التكفير والتشكيك والتشهير في حالة انتفاضة للبقاء على الحدود الدنيا من المؤيدين، ولكنهم بالنهاية سينحسر طرحهم ويخسرون لسوء ما يطرحون، على اعتبار أن بعضهم اشبعوا الساحة الإسلامية تطرفا ورفضا للآخر واحتكارهم للجنّة وكأنها اراضي هم مسؤولين عن توزيعها برغبتهم.
أما جدليات التقليد الإسلامي فهو أول ما سيطرح وبشجاعة لتكشف الاقنعة والوجوه، بالتأكيد سنجد من يدافع عنها ويحميها، لكن المؤكد أنه سيكون هناك نوع من الانتعاش للقوى العلمانية و ربما حتى للالحاد في احيان اخرى، خاصة وأن الاسلاميين كان فشلهم أكبر وأعمق من فشل الأنظمة العربية التي حكمت وانحسرت وفشلت والأمر مستمر.
خلاصة القول، ان داعش خلفت الاماً ومصائب وايتام وثكالى ولكن ستنتج حتما حصانة سيستمر لفترة زمنية ليست بالهينة وعلينا استثمار زخم افولها وانحسارها لنشر قيم التعايش وقبول الآخر نحو العلمانية المنشودة البناءة.
حيدر سلمان
٢٧ فبراير ٢٠١٩