بقلم: د. مها أسعد
أن التفاعل مع مفهوم الذاكرة مفصلي بهذا الموضوع، كما إنهُ يُعد من أقدم الأنشغالات الفكرية للأنسان والمُرتبطة بشهر تموز الثورة، فضلاً عن أن هذا المفهوم تحكمهُ زاوية فلسفية في أحد وجوهه، فهو من هذه الوجهة أنفعال عبر الأحساس المباشر، لأن التذكر يحدث عبر تداعي الأحاسيس والأفكار، التي تُعد أستلهاماً مُتواصلاً يتجدد من جانبين أحدهما واعي مقصود يربط الأحداث بتواريخ زمنية بعينها، والأخر لا واعي يُطلق عليه لفظة تجدد وليس تجديد، لتكون لنا مساحة إقرانه بما جاء به فرويد الذي يربط الذاكرة باللاوعي فيعتبرها مجمل الأحداث والهواجس لحياة الأنسان والمُقتربة من وجهتنا بالزمن الأفتراضي الذي تتجدد فيه الأحاسيس عبر أجيال عديدة مرتبطة بتأريخ مُعين لشهر مُعين، ولان الانحدار الفكري والقيمي لتوجه بعينه عمل تغير جذري لنظام برمته بوقائع مُتشابهة لذروة أحداث مُتشابهة (تحيين التاريخ) هنا أحدث وقعه من حيث فحوى الاحداث ومُخرجات المواقف التي كانت واقعة قبل عقود والتي أوجدنا مبررات لنعيشها الآن، فقد جاءت كُلها في سياق أحداث كبرى شهدها التاريخ المُعاصر هنا وهناك، مما أضطر الباحثين من أجله أن يجدوا لها أساس نظري بعد ان أصبحت الحاجة ماسة في الأرضية الاجتماعية التي تستوعب الثورات وتحتويها، حيث
أضحى لنا أساس نظري ومنهجي للدراسات الذاكراتية ومخرجاتها نستند عليه في البحث بهذا المظمار والذي منه محور مانكتب عنه الآن، وتغذيتاً له تحدث هالبفاكس بذلك تلميذ وأمتداد كُل من برغسون وإميل دوركهايم، فأن العلاقة بين الماضي والحاضر هي مسألة راهنية، على الرغم من أنه لا يظهر الماضي في الحاضر بصفته المُتكاملة وبشكله الحرفي كما كان، بل يتجلى أثراً غير واضح المعالم، يُفهم في ضوء الحاضر، بل يُهيأ ليكون ملائماً للحاضر ومن ثم فإن الذكريات بحسبه لا تختزن الماضي بحذافيره، بل هي منظورية الطابع، أي إنها تُعيد بناء الماضي، أو أجزاء منه، وفق منظور معين ومحدد وبناء على هذا، فالتذكر هو بناء أجتماعي للماضي أيضاً، وبما أن الذكريات هي إعادة بناء للماضي، فإنها تظهر كأنها خلق جديد له، إلا أن عملية الخلق تظل مرتبطة دائماً بهدف مُعين، وان ذلك ليس أمراً أعتباطيا؛ أذ يُرجع هالبفاكس المحتوى الاجتماعي للذكريات الفردية إلى سياق أكبر هو تحديداً الذاكرة المجتمعية التي يقتسمها الأفراد عبر ذكرياتهم المُرتبطة في ما بينها، بوصفها نوعاً من المعرفة الذاكراتية المُشتركة، فالذكريات الفردية تكون دائماً متضمنة في العلاقات الأجتماعية التي بينها ووسع هالبفاكس في أشتغالاته في الذاكرات الجمعية للأسرة، أو الأصدقاء والمدن والجماعات الدينية والقوميات، وهي كلها أُطر تسمح لنا بفهم التأثير الأجتماعي في الذكريات الفردية، وعموماً فإن الحديث عن الذاكرة الجمعية، بمعناها الهالبفاكسي، ليس المقصود منه أن كل الأفراد الذين هم في نظر هالبفاكس من حاملي الذكريات الجمعية ولكنهم يشتركون في الذكريات المُتشابهة ذاتها، أي أن المقصود هنا أن فعل التذكر الفردي لا يحدث بمعزل عن الأطر المجتمعية المحيطة به، وبهذا المعنى يصبح الاجتماعي شرطاً لا محيد منه لأي إمكانية للتذكر، فمن خلال هذا الرأي لا يكون هناك تفريقاً بين الأطر الاجتماعية للذاكرة الجمعية، والذكريات الفردية، فان كلاهما في علاقة تأثرية مُتبادلة، ومما سبق يظهر عندنا أرتباط تموز الشهر بالذاكرة الجمعية للثورات التي تجسدت خلاله وصار هناك نمط في تجديد العهد به، وإذا ذهبنا لأبعد من ذلك لوجدناهُ أيقونة ورمز للحركات الاجتماعية(الثورة)، فإن التسلسل الزمني الأفتراضي يقوم بكشف المبادئ التي تحكم تشكل الفكر وتسري على كل العقول البشرية حيثما وجدت، أما في العمق وخلف المعنى فهناك معنى أخر وهو الرسالة المكنونة المُتوارية والتي يمكن فكها بما يتناسب مع الواقع الاجتماعي الأنساني المُعاش في تزامن نفس التواريخ في تموز، وهذا يدُل على الحاجة النفسية للإنسان الذي هو من ربط التواريخ المُتزامنة وتأثر بها وأصبحت نمط بسبب التكرار وأتاح لها ما ليس مُتاحاً لغيرها، فان تاريخ اليوم والشهر كان أنعكاساً واضحاً عبر الأجيال لبطولات أيديولوجيات مُعينة دون غيرها .