بقلم: د.يحيى الكبيسي
تؤكد أغلب المؤشرات على أن فرص حصول المكلف مصطفى الكاظمي على الثقة في مجلس النواب لا تزال عالية نسبيا. لكن هذه الحكومة، إن قبلت، ستواجه تحديا اقتصاديا حقيقيا، يتمثل بقانون الموازنة الاتحادية التي يجب ان تقدمه هذه الحكومة بأسرع وقت من أجل إقراره. ذلك طبعا مع وجود التحديات القائمة الأخرى والمتعلقة بالأزمة السياسية التي أفرزتها حركة الاحتجاج، وتأثيرات المواجهة الأمريكية الإيرانية على الأرض العراقية، ويضاف إلى كل ذلك ما أفرزه انتشار فيروس الكوفيد19 المستجد الذي ألقى بظلاله على العالم كله.
فبسبب من تأثير الانكماش العالمي على أسعار النفط الذي فاقمته المواجهة السعودية الروسية بإغراقهما سوق النفط العالمية، اضطرت منظمة أوبك، وبالاتفاق مع المنتجين الرئيسيين خارجها، إلى اتخاذ قرار بتخفيض انتاج النفط، لمواجهة تدهور الأسعار المستمر، يبدأ من عشرة مليون برميل يوميا لشهري أيار/ مايو وحزيران/ يونيو 2020، ثم 8 ملايين برميل بداية من شهر تموز 2020 حتى نهاية العام، وأن يتم تخفيض الإنتاج 6 ملايين برميل يوميا حتى نيسان 2021. وقد فرض الاتفاق على الجميع، باستثناء السعودية وروسيا، تخفيض 23٪ من معدلات صادراتها التي كانت قائمة في تشرين الأول/ أكتوبر 2018! وهذا يعني عمليا ان العراق سيضطر إلى تخفيض صادراته من 3.47 مليون برميل يوميا (وهو معدل التصدير في تشرين الأول/ أكتوبر 2018)، إلى 2.61 برميل يوميا حتى نهاية حزيران/ يونيو، ليرفعها إلى 2.77 في تموز حتى نهاية العام، ليرفعها إلى 2.93 حتى نهاية نيسان 2021 (هذه الأرقام يجب ترجمتها بشكل مختلف تماما عراقيا، فهي هنا يجب ان تشمل صادرات النفط من إقليم كردستان أيضا، والتي لا يعرف أحد ما هو مقدارها بدقة، حيث تتراوح بين 400 و600 ألف برميل يوميا وفقا للتقديرات المتباينة، وكان قانون الموازنة الاتحادية قد اشترط على الإقليم تصدير ما لا يقل عن 250 ألف برميل لتسويقها عن طريق شركة (سومو) على أن تسلم إيراداتها إلى الخزينة العامة للدولة حصرا (المادة 10/ ثانيا/ أ)، ولكن هذه المادة لا تزال موضع جدل وخلاف، ولم يتم تنفيذها)!
هذه الأرقام تعني أن واردات العراق من صادرات النفط، والتي تشكل 92 ٪ من الموازنة العامة الاتحادية، لن تزيد عن 30 مليار دولار، بمتوسط سعر لا يتجاوز 30 دولارا للبرميل في أفضل الأحوال، مع حساب تكاليف عقود الخدمة الخاصة بالشركات الأجنبية العاملة في العراق (لا بد للحكومة من التفكير جديا بإعادة المفاوضات حولها في أقرب فرصة)! وهو ما يعني أيضا أن نسبة العجز في الموازنة العامة قد يصل إلى 45٪ من إجمالي الموازنة ( بلغت نسبة العجز في مشروع قانون الموازنة لعام 2020، والتي تم وضعها قبل تدهور أسعار النفط ، 23٪ من الموازنة، مع تقدير سعر برميل النفط بسعر 56 دولارا)!
لقد بلغ حجم الموازنة الجارية/ التشغيلية في الموازنة الاتحادية لعام 2019 أكثر من 84.7 مليار دولار، وهذا يعني أن الموازنة المفترضة لعام 2020، ستكون عاجزة عن توفير المبالغ اللازمة للموازنة التشغيلية/ الجارية
لقد واجه العراق من قبل، أزمتين تتعلقان بأسعار النفط، بعد انهيار أسعار النفط في الربع الأخير من العام 2008، وفي الثلث الأخير من عام 2014، وهو ما أدى حينها إلى عجز كبير في الموازنة، أنتجت في المرة الأولى مواجهة حادة بين رئيس مجلس الوزراء حينها نوري المالكي، والبنك المركزي العراقي، حول «استقلالية» البنك، وهو ما دفع المالكي إلى استصدار قرار «مسيس» من المحكمة الاتحادية (القرار 88 في 18/ 1/ 2011)، والذي منح مجلس الوزراء (= رئيس مجلس الوزراء) سلطة الإشراف على الهيئات المستقلة، وبشكل خاص البنك المركزي حيث قررت المحكمة الاتحادية ان مرجعية البنك المركزي هي مجلس الوزراء، وأنه مسؤول امامه شأنه شأن اية وزارة! وهو قرار مكن المالكي حينها من السيطرة على البنك المركزي، عبر الإطاحة بمحافظ البنك المركزي، بتواطؤ صريح من السلطة التشريعية، في العام 2012، وتعيين شخصية «مرنة» لا تعترض على استخدام الاحتياطي النقدي لتمويل العجز، في انتهاك صارخ للدستور الذي يعده هيئة مستقلة مسؤولة أمام مجلس النواب حصرا (المادة 103/ ثانيا)!، وفي انتهاك آخر لقانون البنك المركزي رقم 56 لسنة 2004، الذي يمنع الحكومة من التدخل في عمل البنك بشكل مطلق (المادة 2)، والذي يمنع البنك من إقراض الحكومة (المادة 26)! أما في الأزمة الثانية، فقد تم استخدام الاحتياطي النقدي «بصمت»، وبتواطؤ جماعي، دون اعتراض من سلطات الدولة، لينخفض هذا الاحتياطي، من 81.6 مليار دولار في نهاية العام 2013، إلى 69.9 مليار دولار نهاية العام 2014 (استخدمت الحكومة ما يقرب من 11.7 مليار دولار من احتياطيات البنك المركزي العراقي دون إطار قانوني! لأنه لم يتم تشريع الموازنة الاتحادية في العام 2014، وتم استخدام المال العام دون ضوابط، ودون مساءلة حتى اللحظة)! ليواصل انخفاضه إلى 53 مليار دولار نهاية العام 2015 ، ويصل إلى 43 مليار دولار فقط نهاية العام 2016. وكان من الملفت آنذاك أن الحكومة العراقية في مذكراتها إلى صندوق النقد الدولي، كانت تعترف صراحة أنها تعمد إلى تمويل العجز في الموازنة الاتحادية «من خلال سحب مبالغ كبيرة من الاحتياطات الرسمية للعملة الأجنبية» كما ورد في مذكرة رفعها وزير المالية في 22 كانون الأول/ ديسمبر 2016!
ومن الواضح اليوم ان الحكومة العراقية ستلجأ مرة أخرى إلى الاعتماد على احتياطي البنك المركزي لتعويض هذا العجز غير المسبوق في الموازنة، وبالتالي انخفاض هذا الاحتياطي من 67.6 مليار دولار، تبعا لأرقام البنك المركزي العراقي في نهاية عام 2019، إلى ما دون 40 مليار دولار في نهاية العام 2020، وقد يصل إلى مستويات قياسية إذا ما تحققت المؤشرات السلبية المتعلقة بالكساد العالمي في ظل أزمة كوفيد19 المستمرة!
كما شكل اللجوء إلى الدين الخارجي، طريقة «ارتجالية» يتم اللجوء اليها ببساطة متناهية مع كل ازمة، حتى بلغت قيمة الدين الخارجي المعترف به (ثمة ديون ما زالت موضع جدل وحوارات دول الخليج تزيد قيمتها عن 41 مليار دولار ) حتى نهاية العام 2019 ، 37 مليار دولار، فضلا عن دين داخلي وصل إلى 34 مليار دولار، وفقا لأرقام البنك المركزي. وستفرض هذه الأرقام على الحكومة العراقية الآتية التعامل بحذر أكبر مع مسألة الدين الخارجي.
لقد بلغ حجم الموازنة الجارية/ التشغيلية في الموازنة الاتحادية لعام 2019 أكثر من 84.7 مليار دولار، وهذا يعني أن الموازنة المفترضة لعام 2020، والتي تحملت عبئا إضافيا عبر فتح باب التعيينات والعقود بارتجالية بعد ازمة الاحتجاجات، وفقا للمعطيات الحالية، ستكون عاجزة عن توفير المبالغ اللازمة للموازنة التشغيلية/ الجارية، مهما بلغ حجم التقشف في الإنفاق الحكومي، ومهما سحبت من الاحتياطي النقدي للبنك المركزي، فضلا عما يمكن ان تصل اليه من دين خارجي في ظل الأوضاع الدولية القائمة. وهو ما سيفرض على الحكومة القادمة اتخاذ بعض القرارات الشجاعة التي لا بديل عنها، بضمنها إمكانية تخفيض الرواتب بنسب عالية، مع تحمل التبعات السياسية والاجتماعية التي قد تنشأ عنها، مع ضرورة مصارحة الجمهور بطبيعة الأزمة، ومدياتها، بكل شفافية.