على مدار ثلاثة أيام تحتضن الكويت مؤتمراً دولياً لإعادة إعمار العراق، تشارك فيه وفود أكثر من 50 دولة، ومئات الشركات الخاصة ورجال الأعمال الأفراد، إلى جانب الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي وصندوق النقد ومنظمات غير حكومية. الحكومة العراقية أعلنت برنامجاً هائلاً للاستثمار في مختلف ميادين إعادة الإعمار، بينها قرابة 40 مشروعاً له صفة استراتيجية. مؤتمر بالغ الطموح إذن، ولكنه يصطدم بسلسلة تناقضات تهدد بتحويله إلى مجرد محفل دولي جديد عن العراق، لا يتجاوز منابر الخطابة وإطلاق الوعود.
أول التناقضات هو أن أمام إعادة الإعمار جدار عازل صلب وكتيم هو استشراء الفساد في البلاد، وتحوله من ظاهرة تخص حفنة من الأفراد والمسؤولين في مختلف مراتب الدولة، إلى مؤسسة متكاملة هائلة السطوة ومتعددة النفوذ ومرتبطة مباشرة بمنظومة المحاصصة السياسية الطائفية والمذهبية التي استقرت رسمياً في العراق بعد الغزو الأمريكي لعام 2003. والبلد يأتي في المرتبة 166 من أصل 176 للدول الأكثر فساداً في العالم، حسب آخر تصنيف لمنظمة «الشفافية الدولية». ورغم استحداث أجهزة مختصة مثل هيئة النزاهة ومكتب المفتش العام وديوان الرقابة المالية، فإن مظاهر الفساد والإفساد تتجذر أكثر فأكثر، والتقديرات الرسمية تشير إلى 24 مليار دولار خسرتها الخزينة الوطنية عبر طرائق نهب متنوعة.
التناقض الآخر هو أن العراق يحتل المرتبة الثانية في منظمة الدول المصدرة للنفط، ويضخ 4.4 مليار برميل يومياً، ويُفترض بالتالي أنه دولة غنية ولا يحتاج إلى استجداء منظمات غير حكومية تتبرع له بمبلغ 300 مليون دولار لمساعدة الملايين من نازحيه. لكن العجب سرعان ما يزول إذا اتضح السبب الرئيسي وراء هبوط العراق من حال الغنى إلى الفقر، أي توحش أنماط النهب التي تستنزف قطاع تصدير النفط بالذات، والتي لم تعد أرقامها سراً على أحد لأنها باتت تُحتسب بمئات المليارات، في بلد تعتمد ميزانيته على عائدات النفط بمعدل 95٪. وإذا كانت منظمة «فايرفاكس ميديا» الأسترالية قد قدّرت أن الفساد ابتلع 800 مليار دولار من التبرعات الدولية للعراق بين 2003 و2015، فلا عجب أن يطلب رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي اليوم مبلغ 100 مليار إضافية!
التناقض الثالث هو أن تدويل الفساد العراقي ليس حلاً ناجعاً كما أثبتت التجارب، وبينها اتفاق التعاون الذي وقعته حكومة العبادي مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وتضمن مشاركة مفتشين أممين في التحقيقات حول الفساد. وكان هذا الحل كفيلاً بإنجاز مقدار الحد الأدنى من الشفافية، لولا أنّ مؤسسة الفساد متأصلة في قلب الأحزاب المشاركة في الحكم، مثلما هي حاضرة بقوة في البرلمان والقضاء والوزارات. ولم يكن غريباً أن يعلن العبادي أن «أحد أسباب دخول الإرهاب هو الفساد، وباتت محاربته جزءاً أساسياً وحيوياً».
والهزيمة النكراء التي مني بها الجيش العراقي في مدينة الموصل أمام مئات من مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية»، رغم إنفاق المليارات على تسليح هذا الجيش، كانت أحد الأدلة الفاضحة على مقدار تغلغل الفساد في أعلى الهرم الدفاعي والأمني للبلاد. والأرجح أن مؤتمر الكويت لن يقدم الكثير، إذا لم يؤخر فيغذي أقنية الفساد أكثر!
القدس العربي