بقلم: الدكتور اسماعيل الجنابي
المتحدث الرسمي للمجلس الوطني للمعارضة العراقية .
عقدين ونيف من الزمن مضى على احتلال العراق وغزوه بشكل بربري يتنافى وقواعد المواثيق والاعراف الدولية التي ارستها الامم المتحدة وسيطرة عسكرية شاملة نفذتهما أميركا وبريطانيا في العراق ما بين 19 مارس/آذار 2003 ، بذريعة امتلاكه أسلحة دمار شامل، مما أدى لإسقاط النظام الوطني الذي يقوده الرئيس العراقي صدام حسين، وخسائر بشرية قُدرت بمليون قتيل ومصاب وملايين المشردين، وخسائر مادية للطرفين تقدر بتريليونات الدولارات، حتى بات العراق بلدا متشظيا وغير مستقر سياسيا، وأضعفه الصراع الطائفي ، ما أفضى إلى ظهور الجماعات المتشددة التي صنعتها القوى العالمية والذي بلغ ذروته خلال (2006-2007) . اضافة الى التعدي الممنهج على أقدم بنك حضاري عرفته البشرية منذ نشأتها .
المقاومة العراقية الوطنية.
لقد فرضت المقاومة العراقية الشريفة نفسها بقوة على الارض واستبسلت بكل ماهو غالٍ ونفيس وجعلت نفسها رقماً صعباً في المعادلة من خلال ضرباتها القاسية التي مرغت انوف جيوش الاحتلال واركعته في وحل الهزيمة وكبدته خسائر جسيمة في الارواح والمعدات ما جعلها تفرض شروطا للتحاور مع الأمريكيين، وعلى رأسها الإعلان بوضوح عن جدول للانسحاب في أفق سقف زمني معقول، على أن يكون هذا الإعلان عبارة عن قرار ملزم تتبناه المؤسسات الأمريكية العليا (مجلس الشيوخ والكونغرس)، وعلى أن يتم إلغاء جميع القوانين والإجراءات التي حصلت في زمن الاحتلال، بما في ذلك العملية السياسية والدستور ، وهذا الذي سيحدث قريبا باذن الله .
ورغم ذريعة أسلحة الدمار الشامل المعلنة فإن أسبابا أخرى مختلفة (سياسية واقتصادية وحتى حضارية) ظلت قيد التناول في وسائل الإعلام العالمية وأروقة السياسة الدولية، وأصبح بعضها أكثر إقناعا للمراقبين انطلاقا من سير الأحداث ومآلات الحرب وتكشف أسرار تحضيراتها .
وفي طليعة تلك الأسباب تحمس الحكومتين الأميركية والبريطانية لوضع اليد على ثروة العراق النفطية الهائلة، فقد تحدثت تقارير عديدة عن التحريض على غزو العراق من طرف مسؤولي شركات نفط أميركية كبيرة، من بينها مثلا ،مجموعة هاليبيرتون النفطية التي يتولى ادارتها “ديك تشيني” نائب الرئيس الأميركي حتى عام 2000 .
كما أكدت وثائق سرية حكومية بريطانية وجود علاقة قوية بين شركات ومؤسسات نفطية وعملية غزو العراق، وقالت إن خططا لاستغلال الاحتياطي النفطي العراقي تمت مناقشتها بين مسؤولين حكوميين وبين كبريات الشركات النفطية العالمية، وخاصة البريطانية منها ( شركات “شل” و”بي بي” و”بي جي”) قبل عام من تاريخ غزو العراق.
لجان التقصي وحقيقة الغزو.
لعل تقرير لجنة تشيلكوت البريطاني الذي قيم بموجبه ، مشاركة بريطانيا في عهد توني بلير إلى جانب الولايات المتحدة في غزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين، أعدته لجنة ترأسها السير جون تشيلكوت وحملت اسمه، تحدث عن عملية الغزو بصفتها عملية متسرعة لم تفسح المجال للآليات الدبلوماسية، وذكر أنها بنيت على معلومات مغلوطة، وأنها شكلت تجاوزا لبنود عمل الأمم المتحدة.
وكانت صحيفة الديلي ميل البريطانية ، قد كشفت ، إن بلير اعتذر أخيرا عن غزوه للعراق، مقرا بأنه جزء من الأطراف التي تسببت بظهور ما يعرف بتنظيم الدولة الاسلامية ، مضيفة أن هذا الاعتراف يأتي بعد أكثر من 12 سنة رفض خلالها بلير الاعتذار عن الحرب.
تقاسم مصالح المحتلين.
من كان يتصور ، أن الولايات المتحدة التى رفعت لسنوات طويلة شعار «احتواء إيران» وحصارها، سوف ينتهى بها الحال فى العراق، لتكون مهددة طوال الوقت من قبل إيران، التى تحولت إلى اللاعب الأساسي فى الشئون العراقية منذ سنوات طويلة؟!
التطور الجديد والخطير، أن أمريكا قتلت رجل ايران القوي قاسم سليمانى، ومعه بعض قادة الحشد الشعبى ، قرب مطار بغداد، وقبلها بأيام وجهت ضربة جوية لحزب الله العراقي فى بلدة القائم قرب الحدود السورية، أدت إلى مقتل ٢٥ شخصا وإصابة العشرا ، وبعدها تظاهر الآلاف من العراقيين معظمهم عناصر فاعلون من المليشيات العراقية المدعومة من ايران، وتوجهوا إلى السفارة الأمريكية محاولين إحراقها، وهو الأمر الذى أحرج الحكومة بصورة شديدة، حيث وجدت نفسها بين نارين، نار أمريكا التى ما يزال لها النفوذ الكبير، ونار إيران وحلفائها فى الداخل!
من كان يتصور أن الغزو الأمريكي للعراق فى مارس ٢٠٠٣، سيكون أفضل هدية قدمتها أمريكا «الشيطان الأكبر» لعدوتها اللدودة إيران؟!..
لكن ما حدث على أرض الواقع ، أن الذين عادوا على الدبابات الأمريكية لحكم العراق الجديد، كانوا يعيشون فى طهران ودول الاحتلال، أو على صلة بها، بل إن بعضهم كانوا عملاء مزدوجين للمخابرات الأمريكية والإيرانية ، بدليل ان طهران لم تعارض وقتها الغزو على العراق لانها تعلم انه سوف يصب في النهاية لمصلحتها وانها ستكون الفائز الأكبر ، لذلك لم تقف ضده، وهو ما حدث بالفعل، حيث صارت هي الناخب الأول فى العراق وحلفاؤها الفائزون بأعلى الأصوات، وهي من تختار وتسمى رئيس الوزراء من خلال رجلها القوي “قاسم سليماني” الرجل الأقوى فى العراق، بل وفي المنطقة، خصوصا سوريا واليمن ولبنان وهذا ما تجلى على لسان قادة الميليشيات المسلحة ، الذين يتحدثون علناً أنهم سوف يحاربون مع إيران، إذا اشتبكت مع أمريكا أو إسرائيل.
لكن المفاجأة السيئة لإيران ، أن غالبية الشعب العراقي قد اكتشف الخديعة الكبرى بعد كل هذه السنوات، وخرج فى مظاهرات عارمة ضد الطبقة السياسية الفاسدة، والأخطر أنه استهدف المصالح والوجود الإيراني فى العراق، وهتف ضد إيران وقادتها ومرشدها والأحزاب الحليفة لها.
مكر التأريخ .
التاريخ كان شديد المكر مع الأمريكيين ومع الإيرانيين فى العراق ، وكل طرف اعتقد أنه فاز أو حصل على جوائز كبرى، حيث ان الأمريكيون لم يصدقوا أنفسهم وهم يرون القوى السياسية التى حملوها على دباباتهم إلى قصور الحكم، تتمرد عليهم بل وتطالب بطرد ما تبقى منهم.
والإيرانيون الذين ظنوا أنهم هيمنوا تماما على العراق، فوجئوا بالشعب، وفي القلب منه الطائفة الشيعية العربية ، التي ثارت على إيران، وحرقت قنصلياتها وهتفت ضد رموزه الدينية، لتبعث رسالة مهمة جدا لإيران ولأمريكا: أنهم عراقيون ويرفضون أي احتلال سواء كان أمريكيا أو إيرانيا، بدليل الدماء الطاهرة التي اريقت على تراب العراق …
حقا انه مكر التاريخ!