بقلم: الدكتورة دانه علي العنزي
كان أية حديث عن حرب عالمية ثالثة بين روسيا والولايات المتحدة وحلف الناتو بسبب أوكرانيا؛ حديث ينطوي على مبالغة كبيرة جداً. وكما كان متوقعاً أيضاً أن أقصى ما يمكن أن تفعله القوى الغربية-بما في ذلك الولايات المتحدة- ضد روسيا حال غزوها لأوكرانيا، هو فرض عقوبات اقتصادية عليها. فشبح اندلاع حرب عالمية قد تتطور إلى حرب نووية بسبب أوكرانيا خصيصاً، يحاول الغرب بكل السبل قتله تماما. والدليل الدامغ على ذلك، الرفض القاطع من جانب حلف الناتو-حتى الآن- بنشر منطقة حظر طيران على أوكرانيا-بناء على طلب الرئيس الأوكراني- لأن ذلك سيعني إعلان الحرب رسميا على روسيا. لهذا السبب خصيصا-أي قطع جميع السبل والذرائع للحيلولة دون جر حلف الناتو في حرب لا تحمد عقباها مع روسيا النووية وثاني أكبر قوة عسكرية في العالم؛ اكتفى الغرب بفرض عقوبات اقتصادية ومالية على روسيا بعد غزوها لأوكرانيا، والتي توصف بالعنيفة غير المسبوقة ضد قوى كبرى دولية، حيث تضمنت حظر بعض البنوك الروسية من نظام سويفت، وضع بوتين وبعض القادة الروس وبعض أثرياء روسيا على اللائحة السوداء وتجميد وحظر ممتلكاتهم وأرصدتهم في الغرب، كما تضمنت أيضاً حظر الطيران، وانسحاب بعض الشركات من روسيا، وحظر التعامل مع المالي مع روسيا.. وغيرها. وإذا كان الغرب اكتفى بفرض العقوبات على روسيا.
فالسؤال الذي يطرحه نفسه الآن، ما هي أهداف هذه العقوبات تحديدا؟ أو هل سيحقق سلاح العقوبات هذه الأهداف بفعالية؟ ويكمن الهدف الرئيسي من العقوبات-بحسب المعلن من جانب المسؤولين الغربيين- هو إجبار بوتين على سحب قواته من أوكرانيا وإنهاء هذا الغزو. وتذهب بعض التحليلات أن وراء هذه العقوبات غايات أخرى بالإضافة إلى هدف إنهاء الحرب. وهى سحب بوتين اعترافه باستقلال بجمهوريتي (لوهانسك ودونيتسك). وربما «جزيرة القرم». وأيضاً، زيادة الضغوط على الاقتصاد الروسي مما قد يؤدي إلى اندلاع تظاهرات عارمة في روسيا ضد بوتين. أو حدوث انقلاب عليه من جانب النخبة العسكرية مدعومة من فئة ما يسمون «الأوليغارشية» الروسية كنتيجة لتدهور الوضع الاقتصادي. وبعيدا عن عدم معقولية بعض هذه الغايات، ففيما يتعلق بالهدف الرئيسي من هذه العقوبات، فيبدو أنه من الصعب تحقيقه.
وهذا جليا من استمرار تقدم القوات الروسية في أوكرانيا وتصميم بوتين على تحقيق أهدافه في أوكرانيا وأهمها نزع اعتراف من جانب الناتو بعدم ضم أوكرانيا للحلف. وصعب تحقيقه-أو بالأحرى عدم فعالية العقوبات الغربية على روسيا- يغزو لعدة أسباب. ويكمن السبب الأول في عدم الفعالية الكبيرة أو القوية للعقوبات في حد ذاته في التأثير على الاقتصاد الروسي.
فلا شك أن العقوبات كان له تأثير سريع مباشر على الاقتصاد الروسي، والروبل تحديدا الذي انخفضت قيمته بنسبة 30 % مقابل الدولار. ومع ذلك، فبحسب بعض التقديرات الغربية لن تنال هذه العقوبات سوى 10 % بالأكثر من الاقتصاد الروسي الكبير. علاوة على ذلك، لن يتأثر حجم المعاملات التجارية والاقتصادية لروسيا -جراء هذه العقوبات- مع شركاء رئيسيين وبخاصة الصين والهند، اللذين قد امتنعنا عن التصويت في مجلس الأمن ضد حزمة عقوبات كانت مفروضة على روسيا.
ويكمن العامل الأكثر خطورة في هذا الصدد، وهو أن العقوبات الاقتصادية الغربية ضد روسيا-كانت انتقائية إلى حد بعيد- إذ استثنت بعض الدول الأوروبية وخاصة المجر وألمانيا وبلغاريا مبيعات النفط والغاز الروسي من العقوبات بسبب اعتمادها بنسبة 70 % على الغاز الروسي. ومن المعروف أن الغاز الروسي يمثل ما يناهز 30 % من الصادرات الروسية. وبذلك، ضرب الغرب بنفسه إمكانية تحقيق أي فعالية حقيقية لباقي العقوبات التي فرضها على روسيا. وربما ذلك قد يكون أهم أسباب جراءة بوتين الشديدة في تحدي الغرب بغزو أوكرانيا، اعتقادا منه أن أوروبا من المستحيل أن تخاطر بقطع إمدادات الغاز الروسي خاصة في فصل الشتاء القارص. وعلى منحى آخر، يدخل بوتين هذه الحرب، ويسانده ظهير رسمي وشعبي واسع، من باب إعلاء أمن روسيا القومي فوق أي اعتبارات أخرى حتى ولو انهار الاقتصاد الروسي برمته. ومن هذا المنطلق، لن تجدى أية عقوبات اقتصادية نفعاً مع بوتين المستعد للدفع بسياسة الأرض المحروقة في أوكرانيا، بل في أوروبا برمتها حتى تتحقق مطالبه. إذ هدد-وفي تقديرنا هو جاد-بحرب نووية ضد حلف الناتو إذا تدخل في أوكرانيا. ولعل سيناريو «ضم جزيرة القرم» يؤكد لنا ذلك.
حيث مضى بوتين في أهدافه وتحدى العقوبات الغربية، بل ازدادت شعبيته وسطوته الداخلية في شعب لديه درجة عالية جدا من الاعتزاز «القومي»، ويرى في روسيا قوى كبرى موازية للولايات المتحدة في النظام الدولي. وعطفا على ذلك، نخلص إلى أن العقوبات الغربية-في تقديرنا- لن تجدي نفعا مع بوتين، فالغرب في مأزق شديد للغاية. إذ هو حقاً على استعداد لتلبية جميع مطلب بوتين في أوكرانيا، لكنه يخشى من أن يفضي لتحقيق هذه المطالب إلى مطالبة بوتين بالمزيد، أي المطالبة بعودة دول الاتحاد السوفييتي السابق إلى حضن روسيا. كما يتمنى بوتين الذي كرر مراراً أن سقوط الاتحاد السوفييتي كان أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين