تحت المجهر
بقلم: موفق خطاب
بالرغم من الجهود الجبارة التي بذلت منذ أمد بعيد للتقريب بين الأديان وتضييق مساحات الخلاف بين المذاهب حتى في الدين الواحد ؛ إلا أن تلك المؤتمرات فشلت و لم تؤت ثمارها كما كان يأمل منها الكثير ؛ بل على العكس فقد إزدادت الهوة بينهم وتحولت في بعض الأحيان إلى سجال عقيم وذلك بسبب انغلاق اغلب الدعاة والمنظرين على المنقول ، و عند الضرورة يعمدوا بالضحك في ترويج خزعبلات تدغدغ العاطفة وتغيب العقول .
وأرى أن السبب الكامن وراء تراجع المد الديني لجميع الاديان والمذاهب ، هو عدم إحترام عقول المتلقين وخاصة جيل الشباب بعد ان سيطرت على عقولهم واعينهم وبسبب التقنية و الانفتاح ما يتلقوه من كم هائل من المعلومات عبر اجهزتهم و وسائل التواصل الاجتماعي والتي هي اقرب اليهم من حبل الوريد، مما سارع في كشفت تواضع بل تراجع حجة الكثير من الدعاة امام الحقائق وغياب التفسير وايجاد الحلول لسيل من المشاكل التي تعصف بالمجتمع ، كذلك غياب صدق النوايا في الاصلاح لرجال قد اتخذوا من هذه الدين وسيلة استرزاق يلزمهم بأن ينغلقوا على النصوص حتى عافتهم النفوس .
فكل طرف يظن أن معتقده هو الحق بعينه وخلاف ذلك هو الضلال ،وتراه يبذل جهده للتبشير بمعتقده من وراء الكواليس، فغدت تلك المنابر ساحات للمبارزة الخطابية لا غير ، ولا نغمط اصحاب النوايا الصادقة من جميع الأديان والمذاهب حقهم على الرغم من ندرتهم ؛ لكن أمواج التغيير اجتاحتهم و اصبحت خارج السيطرة مما لا محالة منه انه سينكمش معها حضورهم و يضمحل تأثيرهم ان لم يستدركوا امرهم .
ثم أن فكرة اجبار الناس على فكر ومعتقد واحد وما عداه هو الضلال المبين هي من أساسها لا تستقيم مع حكمة الله في شؤون خلقه وتدبيره:
(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك ولذلك خلقهم).
فالأولوية الآن التي يجب أن تتبناها الدول والمنظمات والهيئات ومراكز البحوث والتعليم بل حتى نزولاً إلى مراحل التعليم ومناهجها و الأسرة هي نشر الوعي و ثقافة التسامح و التعايش وقبول الآخر على اختلاف معتقداتهم ونبذ العنف بعيدا عن أجواء المؤتمرات التي تكلف اقتصاديات الدول وقد فشلت في تحقيق اهدافها وإقناع المؤتمرين أنفسهم بنتائجها .
فالقواسم المشتركة التي تجمع الناس كثيرة جداً وهي مغروسة فيهم فطريا، أما ماهية المعتقد وطريقة التعبد فهي عادات مكتسبة وأمور روحية تنظم العلاقة بين العبد وربه ولا سلطة ولا سلطان لأحد عليها، وهنا يكمن تفهم موروثات و خلافات حادة وقعت منذ ازمنة بعيدة بين السلف كوقائع تاريخية من باب الاطلاع فقط وليس تقمص الادوار، فلا مبرر ابدا النفخ فيها ليتوارثها الخلف لتؤجج بينهم الشحناء والقطيعة والبغضاء ..
أما التعايش فهو مصالح دنيوية ضرورية تؤهل الفرد للإنخراط في المجتمع وتحافظ على كيانه وتؤمن الأوطان وتحمي مكتسبات الإنسان .
ولنا قدوة في بعض المجتمعات بعد ان انهكتها الحروب الدينية فكان لا مناص لها من طي الخلافات واعتماد مبدأ التسامح والتعايش وفقا لمبدأ المواطنة وسيادة القانون بعد ان فشل رجال الدين في موروثاتهم في جمع الناس على كلمة سواء ..
لقد أودع الله في مخلوقاته غاية إبداعه في التنوع لتدفع بنا للتبصر والتفكر ، فلا تستقيم الحياة في غابة كلها حيوانات أليفة ولا مفترسة، فلا بد لأحدهم من مغادرة الغابة ليبحث عن بيئة تلائم حاجته لتستديم بها حياته.
ومن بديع الخالق في خلقه أنه لم يكتفِ بنوع واحد من الأثمار وأطعامها ، ولا الزهور وعطرها والوانها ، ولا الطيور وألحانها ، ولا حتى الماء الزلال الجاري في الأنهار والمتفجر من العيون والشلال المنسكب من اعالي الجبال، وحتى آية لنا تقلب الليل والنهار والجفاف والامطار ،فكل تلك الظواهر المتضادة هي من تعطي معنى للحياة والإزدهار.
لكن المخلوق الوحيد الذي تمرد منذ بدء الخليقة بقبول الآخر ، بل تناحر حتى مع نوعه و جنسه، هو أبن آدم منذ أن قتل قابيل اخاه هابيل وعجز حتى ان يواري سؤة اخيه ، وتوالت بعدها حلقات الابتعاد عن السنن الكونية في إعمار الأرض وتأخر الإنسان كثيرا في ادراك سبب وجوده في الخليقة ، وحاولت الشرائع والرسل جمعهم ، ونجحت لحد ما في رأب الصدع فيما بينهم عندما حمل وطبق الرسالة والتعليمات رجال صادقين، لكن ما إن انتهى عصر الرسالات إلا وتراجعت البشرية القهقري وتطاحنت شعوب وأمم وما زالت ،واكثر من أجَّج و غذى هذا التطاحن هم الكهنة والسدنة ورجال الدين لغاياتهم بعد ان انغلقوا على النصوص وسفهوا العقول.
وأخيرا فلقد ولى عصر فرض الإرادات والتلقين ، فعلى جميع القادة والدعاة و المصلحين أن يحترموا عقول الناس أولا حتى يصغوا اليهم بيقين .