أدت ضغوط الحكومة الاتحادية في بغداد والأخطاء الداخلية الكارثية إلى دفع “حكومة إقليم كردستان” إلى حافة الهاوية، مما زاد من ضرورة قيام وساطة أمريكية أكثر نشاطاً.
في رسالة وجهها مؤخراً رئيس وزراء “حكومة إقليم كردستان العراق”، مسرور بارزاني، إلى الرئيس الأمريكي بايدن، وسرعان ما أكدها ثلاثة مشرعين أمريكيين، أعرب بارزاني عن قلقه بشأن قدرة الإقليم على الصمود والاستمرارية. ولفت بارزاني إلى أن “حكومة إقليم كردستان” “تنزف اقتصادياً وسياسياً”، ملقياً باللوم على “الحملة المشينة” التي تشنها بغداد ضد أربيل. ولدى بارزاني وجهة نظر في ذلك – فقد قامت السلطات الاتحادية في الواقع بإلغاء الحكم الذاتي الذي حصلت عليه “حكومة إقليم كردستان” بشق الأنفس في السنوات التي أعقبت سقوط تنظيم “الدولة الإسلامية” وبدء الأكراد محاولة الاستقلال الفاشلة. وتجدر الإشارة إلى أن بغداد أعادت المركزية إلى عملية صنع السياسات في العاصمة ومنعت صادرات النفط الكردية وسط نزاع مستمر منذ عقد من الزمن حول إدارة الطاقة.
ومع ذلك، لا تروي سردية بارزاني القصة بأكملها. فقد دعمت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة الحكم الذاتي والأمن والتنمية في كردستان العراق، مما ساهم في تعزيز المزيد من الاستقرار والمشاعر المؤيدة لأمريكا. ولكن في الوقت نفسه، تغاضت واشنطن عن نقاط الضعف لدى “حكومة إقليم كردستان” – أي الانقسامات الداخلية، والفساد، والتراجع الديمقراطي، التي قللت من موثوقية أربيل وأدت إلى الأزمة الوجودية الحالية. لدى الولايات المتحدة مصلحة استراتيجية في الاستمرار في تعزيز استقرار “حكومة إقليم كردستان” وازدهارها، ولكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك دون معالجة المشاكل الداخلية في الإقليم.
ضغط متعدد الجوانب…
في أعقاب الاستفتاء المشؤوم الذي أجرته “حكومة إقليم كردستان” بشأن الاستقلال في عام 2017، سرّعت بغداد بشكل كبير جهودها لتقويض الحكم الذاتي في الإقليم – وذلك جزئياً من خلال الأعمال العسكرية، بمساعدة كبيرة من إيران وتركيا (انظر أدناه). أما المعسكر السياسي الشيعي الذي يقف وراء الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني فيكنّ أيضاً ضغينة ضد الأحزاب الكردية الرئيسية على خلفية تعقيد سيطرته التدريجية على السلطة بعد انتخابات عام 2021. ومنذ ذلك الحين، رُجح ميزان السلطة بشكل قاطع لصالح بغداد، مع وقوف “المحكمة الاتحادية العليا” ومجلس النواب والميليشيات المدعومة من إيران ضد “حكومة إقليم كردستان” بشأن قضايا النفط وأضعفت سلطتها بانتظام.
على سبيل المثال، أشار المسؤولون في أربيل إلى ست قضايا مرفوعة أمام “المحكمة الاتحادية العليا” منذ عام 2017 أدت إلى تراجع الحقوق الدستورية لـ”حكومة إقليم كردستان”. ففي شباط/فبراير 2022، صدر حكم يقضي بعدم قانونية صناعة النفط والغاز في الإقليم. وبعد عام، أغلقت أنقرة خط أنابيبها إلى شمال العراق بعد خسارتها في قضية التحكيم أمام بغداد، مما أدى إلى وقف الصادرات النفطية لـ”حكومة إقليم كردستان” التي بدأت تتدفق للمرة الأولى في عام 2014. وخسرت “حكومة الإقليم” أيضاً 5 مليارات دولار من الإيرادات منذ إغلاق خط الأنابيب، بالإضافة إلى قدرتها الكبيرة على المساومة في بغداد. كما تعرضت منشآت النفط والغاز التابعة لها بشكل متكرر لهجمات صاروخية شنتها الميليشيات.
بالإضافة إلى ذلك، عرقل كل من مجلس النواب و “المحكمة الاتحادية العليا” مؤخراً اتفاقاً حول الميزانية بين رئيسي الوزراء السوداني وبارزاني، حيث أشارا إلى افتقار “حكومة إقليم كردستان” إلى الشفافية المالية. ونتيجة لذلك، لم تتمكن أربيل من دفع رواتب الموظفين الحكوميين على مدى ثلاثة أشهر – الأمر الذي يشكل تناقض صارخ مع تطلعات “حكومة إقليم كردستان” إلى الاستقلال قبل بضع سنوات فقط. ويسعى بعض السياسيين في بغداد أيضاً إلى إغلاق المراكز الدبلوماسية التابعة للإقليم في ما يصل إلى أربع عشرة دولة.
وبالإضافة إلى عنف الميليشيات، تتعرض “حكومة إقليم كردستان” أيضاً لهجمات من جارتيها تركيا وإيران اللتين كثفتا ضرباتهما بالطائرات المسيرة والصواريخ ضد جماعات المعارضة الكردية المسلحة. وعندما زار مسؤولون أتراك العراق في الشهر الماضي، لم يتعهدوا بإنهاء هذه الهجمات أو حل النزاع النفطي، بل ضغطوا على “حكومة الإقليم” لتتعاون معهم ضد عدو أنقرة الداخلي، “حزب العمال الكردستاني”. وقد أصدرت إيران تحذيراً مماثلاً، وهو: نزع سلاح الجماعات الكردية الإيرانية المحلية التي تعارض النظام في طهران أو مواجهة تدخل عسكري واسع النطاق. وبعدما نفذت الخيارات أمام “حكومة إقليم كردستان”، سمحت لحرس الحدود العراقي بتولي المسؤولية من “البيشمركة”، وهو قرار كان له تأثير جانبي يتمثل في تسليم نصف عائدات الجمارك في الإقليم إلى الحكومة الاتحادية.
… ضد البيت المنقسم
بدلاً من الاتحاد في مواجهة تعديات بغداد المتصاعدة، انخرط الحزبان الكرديان الرئيسيان، بقيادة عائلتي بارزاني وطالباني، في صراع مرير على السلطة والموارد، باستخدامهما السياسة في بغداد وأنقرة وطهران لتقويض بعضهما البعض. وقد جعل ذلك “حكومة إقليم كردستان” أقل أماناً وأقل قدرة على حماية حقوقها، مما أدى بشكل أساسي إلى تبديد سجلات أربيل في مجال إرساء الديمقراطية بين شعبها والمسؤولين الأمريكيين. فالحزبان هما حالياً في حالة حرب باردة، ويتصرفان وكأنهما عَدوّان وليس شريكان في تحالف.
وداخلياً، لم يجرِ الحزبان انتخابات في “إقليم كردستان” في تشرين الأول/أكتوبر 2022 كما كان مقرراً، واختارا بدلاً من ذلك تمديد فترة ولاية حكومة الإقليم – في خطوة رفضتها “المحكمة الاتحادية العليا” باعتبارها غير قانونية. ومن دون وجود لجنة انتخابية ذات صلاحيات، فقدت “حكومة إقليم كردستان” قدرتها على تنظيم الانتخابات المحلية استعداداً للموعد المحدد الجديد في شباط/فبراير 2024، وتنازلت عن هذه السلطة لصالح بغداد.
وعلى الصعيد الاقتصادي، أهملت “حكومة إقليم كردستان” فرص الاستثمار وأهدرت أموالها النفطية على الوظائف العامة ومعاشات التقاعد، ومعظمها لصالح الموالين للحزب الحاكم، وأدى ذلك إلى قيام بيروقراطية ضخمة ومكلفة – ففي منطقة يبلغ عدد سكانها 5.5 مليون نسمة، يوجد في “حكومة إقليم كردستان” عدد مذهل يبلغ 1.4 مليون موظف ومتقاعد بتكلفة 750 مليون دولار شهرياً. وعلى الرغم من الحاجة إلى اتخاذ تدابير تقشفية على هذه الجبهة، لا تستطيع “حكومة الإقليم” دفع رواتب هؤلاء الأفراد على المدى القريب دون عائدات النفط، ويجب أن تعتمد على الميزانية الوطنية لبغداد.
وعلى هذا النحو، تحوَّل اليوم حلم “حكومة إقليم كردستان” بالاستقلال إلى صراع من أجل البقاء، وردّ الجمهور الغاضب بالاحتجاجات. وقد قمعت أربيل هذه المعارضة، كما دعا بعض البرلمانيين الأكراد إلى طرد القنصل العام الأمريكي على خلفية انتقاده سجل “حكومة إقليم كردستان” في مجال حقوق الإنسان.
دور واشنطن
في عام 2016، كلف الكونغرس الأمريكي البنتاغون بتوزيع 20 مليون دولار شهرياً كرواتب “للبيشمركة” للمساعدة في درء عدم الاستقرار وتشجيع الإصلاح الأمني. وفي المقابل، وعدت أربيل بإعادة هذه القوة ذات الأغلبية الحزبية تحت قيادة موحدة وإبعادها عن الحزبين الحاكمين. ومع ذلك، بعد مرور سبع سنوات، لا يتبع سوى ثلث مقاتليها الذين يقدر عددهم بـ 160 ألف شخص “وزارة شؤون البيشمركة” في “حكومة إقليم كردستان”، وهي هيئة ظلت بدون وزير لمدة عام بسبب استمرار الصراع السياسي الداخلي.
ولا تستطيع واشنطن تحمل تكلفة السماح لـ”حكومة إقليم كردستان” أو بقية العراق بالانزلاق إلى الفوضى أو الصراع. ومع اقتراب موعد الانتخابات، يلوح خطر العنف العرقي في الأفق، وتُعتبر المواجهات الدامية الأخيرة في كركوك بمثابة طلقة تحذيرية في هذا الصدد. كما أن خطر عودة تنظيم “الدولة الإسلامية” يصبح حقيقياً أيضاً إذا خففت قوات التحالف والقوات العراقية الضغط على التنظيم، كما يؤكد المسؤولون الأمريكيون بلا تردد. ولذلك، من الضروري أن تعيد واشنطن التعامل مع الحكومتين الكردية والعراقية، ليس كمستشار غير نشط بل كوسيط وكفيل نشط.
وعلى وجه الخصوص، ينبغي على واشنطن مساعدة الفصائل الكردية على الاتحاد مجدداً، وإعادة إيصال صوتها في بغداد، واستعادة ثقة جمهورها. ويتضمن ذلك استخدام الدروس المستخلصة من نهاية الحرب الأهلية الكردية في عام 1998 للتوسط بين الأحزاب الكردية اليوم. وفي وقت سابق من هذا الشهر، قام رئيس الوزراء بارزاني ونائب رئيس الوزراء قوباد طالباني بزيارة مشتركة إلى بغداد وحصلا على قرض لدفع رواتب موظفي “حكومة إقليم كردستان”. ينبغي على واشنطن اتخاذ خطوات متابعة تدعم هذه الجهود الجماعية.
وأخيراً، يجب أن يتضمن الاجتماع المتوقع بين رئيس الوزراء العراقي السوداني والرئيس بايدن في البيت الأبيض تمثيلاً رفيع المستوى لـ”حكومة إقليم كردستان”. وهذا من شأنه أن يشير إلى أن الولايات المتحدة تعترف بالأكراد كشركاء أساسيين في مستقبل العراق الاتحادي. وعلى نطاق أوسع، من خلال مساعدة الأكراد على مساعدة أنفسهم، تستطيع واشنطن وضع حد لخسائر “حكومة إقليم كردستان” وتأمين مصالح الإقليم على المدى الطويل في عراق مستقر وديمقراطي.
بلال وهاب هو “زميل فاغنر” في معهد واشنطن.