انتقل مفهوم ( التأسلم) من حركات الاسلام السياسي السني ممثلة بالاخوان المسلمين في مصر، وحزب التحرير في العراق الى الحركات الشيعية التي انبثقت كرد فعل على الحضور الطاغي للفكر الماركسي في نهاية الخمسينات من القرن الماضي.
بنيت فكرة الاسلام السياسي على مفهوم مؤداه ان الاسلام ليس دين عبادات فحسب بل هو دين معاملات ، وهو ليس طقوسا بل منهج عمل واسلوب حياة , لايقتصر على تنظيم العلاقة بين المخلوق وخالقه بل هوتنظيم شامل للحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وصولا الى بناء دولة الحاكمية فيها لله ، والدستور مستوحى من احكام الله.
توارثت الحركات الاسلامية مفهوم الحاكمية هذا من الخوارج الذين رفضوا قضية التحكيم بين الامام علي بن ابي طالب عليه السلام ومعاوية بن ابي سفيان في معركة صفين ، وذهبوا الى مقولة الحاكمية لله وحده ، مرورا بأبي الاعلى المودودي وغيره من المفكرين لتخرجه في عهد الاخوين سيد قطب ومحمد قطب من معناه الثابت في (إفراد الله وحده في الحكم والتشريع تأسيسا على ماجاء في القرآن الكريم (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) الى الاحتكام إلى من يعتقد أنه صاحب الحق الحصري في تفسير كتاب الله مما يمنحه الحق تلقائياً في تمثيل الإرادة الإلهية على الأرض..
هناك تماهي بين مفوم الحاكمية عند سيد قطب ، ونظرية ولاية الفقيه عند السيد الخميني، في الاولى الحاكمية لمن يمتلك الحق في تمثيل الارادة الالهية ، اما في الثانية فانها لنائب الامام الغائب الذي ينوب عن المهدي المنتظر في ادارة شؤون المسلمين وله صلاحيات مطلقة بذلك.
لم يكن لنظرية ولاية الفقه تأصيل في الفكر السياسي الشيعي ، بل ان السيد الخميني هو من اجترح هذه النظرية في مطلع السبعينات من القرن الماضي ، ورسم ملامحها العامة خلال سلسلة محاضرات القاها على طلبته في مدينة النجف.
من عاصروا حراك الفكر الشيعي في العراق يتذكرون جيدا ان كتاب ( الحكومة الاسلامية أو ولاية الفقيه) المكون من خمسة اجزاء صغيرة مطبوعة في مطبعة الغري في النجف تم توزيعه عام 1971على المساجد والحسينيات في مدن الجنوب والوسط عبر البريد الرسمي العراقي كرزمة بريدية من غير ان تستشعر اجهزة الدولة الامنية ، ولا قيادتها السياسية الخطر من تلك الكراسات الصغيرة ذات الطباعة المتواضعة.
لم تجد نظرية الخميني صدى في حوزات النجف ، ولم نعثر على اشارة لها حتى في كتب السيد محمد باقر الصدر الذي يعد الاب الفكري والروحي للاسلام السياسي الشيعي في العصر الحديث .
غير ان نجاح الثورة الاسلامية في ايران وما رافقها من نشوء احزاب وحركات اسلامية موالية لها ومدعومة من قبلها وسع المسافة بين المرجعيات التقليدية والمرجعيات السياسية ، بين مرجعيات الدين ومرجعيات التدين ، مرجعيات الاسلاميين ومرجعيات المسلمين ، المرجعيات التي يقتصر اهتمامها على ( المسائل الفهية) والافتاء بكل ميايتعلق بعلاقة الانسان بخالقه وفي تعاملاته الاجتماعية ، وبين تلك التي تتبنى فكرة تصدير نموذج الحكم الاسلامي ، ونشر التشيع بكل السبل الممكنة !
تجسد الخلاف والاختلاف بين مرجعيات الدين ومرجعيات التدين باجلى صوره بين مرجعية السيد الخميني ومرجعية السيد الخوئي الذي كان يوصف بانه ( اعلم الاحياء والاموات) بين مراجع الشيعة وفقهائهم ، ثم انتقل الخلاف ذاته الى من اخلف الخوئي في النجف ومن اخلف الخميني في قم ، بين السيد السيستاني والمرشد الايراني السيد علي الخامنئي.
هو خلاف صامت ، واختلاف مختبئ بين طيات العمائم ، وصراع تغطيه مشتركات وثوابت المذهب !
يبدو ان لحظة افتضاح الاختلاف ، وبروز الصراع بين قم والنجف قد حانت ولا مجال لتاجيلها او تخطيها في ظل المتغيرات الخطيرة التي يشهدها العراق وايران معا .
ليس مهما لدى مرجعية قم درجة نزاهة او انحرف الاسلامويين الذين يديرون دفة الحكم في العراق ، المهم عندها هو درجة استعداد اولئك الساسة للتعاطي مع المطالب الايرانية، وعدم ممانعتهم في ان يكونوا ادوات لتسويق المشروع الايراني، وتحويل العراق الى محفظة نقود في جيب ايران .
لقد كشفت انتفاضة تشرين العراقية عن جملة حقائق تتعلق بعمق الصراع بين مرجعية الدين في النجف ومرجعية التدين في قم.
من بينها ان قم قادرة على ضبط ايقاع القوى السياسية الشيعية والفصائل المسلحة ،وتوظيفها لتحقيق الاهداف المطلوبة في الاوقات المناسبة، لكنها غير قادرة على التاثير بالمجتمع الشيعي العراقي الذي يطغى لديه الثابت الوطني والقومي على الثابت المذهبي!
ومن بينها ايضا ان النجف قادرة بالمقابل على ارباك الايقاع الذي تضبطه قم من خلال تاثيرها الكبير في الحراك المجتمعي العراقي بعيدا عن االتسييس والتأسلم.
الاسابيع الماضية اثبتت بما لايقبل الشك ان النجف ماضية في ارخاء قبضة قم عن الحراك السياسي في العراق فيما هي مصرة على المضي في تحشيد الحراك المجتمعي صوب اهداف تنسف التطلعات والاحلام الايرانية في العراق.
ربما تكشف الاسابيع القادمة فصولا اخرى من لعبة الصراع الخفي بين مرجعيات الاسلام ومرجعيات التاسلم، لكن المؤشرات الاولية تقول ان مرجعية الدين ستسجل اهدافا مهمة لصالحها على حساب مرجعيات الدين والايام حبلى بالمفاجآت.