بقلم: د. علي عزيزأمين
أخيراً أثبت العلم الحديث أن الكرة الأرضية كائن حيّ بكل معنى الكلمة، تحس وتتنفس ولها بصمة صوتية تميّزها عن سائر الكواكب والأجرام السماوية في هذا الكون الفسيح، وأنّها كالرّحم تنسج ما يخرج منها وما يلج في جوفها، وتغضب لما يصيب ما يولد من رحمها، كأمّ رؤوم تعشق أولادها، وتدافع عنهم، بل وتشاركهم أفراحهم وأتراحهم، وتميّز ما بين ولدها الأصيل والغريب الدخيل.. وهو ما لا يدركه سوى مَن عُجن من طينتها أباً عن جد وتوحّدت تركيبته مع مكوّنات ترابها عبر ملايين السنين.
وحدهم مَن لا وطن لهم لن يدركوا هذا العشق المتبادل ما بين الوطن تراباً ورمالاً وحجراً وشجراً وبين أولاده المجبولين من عجينة مكوّناته، وهؤلاء الشواذ يتجسّدون حصراً في الولايات المتحدة الامريكية و”الكيان” المجرم في فلسطين التاريخ والحضارة، وربّما بدرجة أقل في استراليا. فالأولى جاءت من حثالات أوروبا المتوحّشة ومجرميها، وأقامت أعتى إمبراطورية ظهرت على وجه الأرض فوق جماجم عشرات الملايين من أصحاب الأرض الأصلاء، والثانية أُقيمت في غفلة من التاريخ من شُذّاذ الأفاق ومنبوذي الاستعمار الغربي البغيض وفضلاته، بفعل مئات المجازر والجرائم والتطهير العرقي واللصوصية بدعم غربي ممنهج ومقصود، وهما موضوع اهتمام هذه العجالة.
ولعل من نماذج هذا العشق المتبادل، وما أكثرها، نسوق على سبيل المثال لا الحصر: عائلة قدوح “الغندورية” المعطاءة، فها هو الأب الشهيد القائد الحاج حسن حسين قدوح يشيّع ابنه الشهيد محمد علي حسن قدوح الذي ترك مقاعد دراسته المتفوّق بها ليتطوّع قبل استشهاده بأسابيع في معركة “وحدة الساحات” لإسناد جبهة غزة 2024، وها هو الخال الشهيد الحاج عماد حسين قدوح الذي استشهد خلال المواجهات البطولية في الغندورية خلال حرب تموز 2006 يلتحم مع ابن شقيقته الشهيد ربيع علي رميتي الذي استشهد عام 1998 في حرب تحرير جنوب لبنان. وها هو الشهيد القائد الرئيس صدام حسين فاتح طريق قصف تل أبيب يودّع فلذات كبده عدي وقصي وحفيده الفتى الشجاع مصطفى بكل رباطة جأش… وها هو الشهيد القائد اسماعيل هنية يتلقّى خبر استشهاد ثلاثة من أبنائه الشباب وطفلين من أحفاده في غارة غادرة يوم العيد صابراً محتسباً، وهم الذين افترى عليهم المغرضون ونسجوا حولهم الكثير من الافتراءات المقصودة بكونهم هربوا من غزة العزّة نحو قصورهم العاجيّة في الدوحة واسطنبول التركية… وها هو سيد الشهداء على طريق القدس “الأيقونة” العالمية السيد حسن نصر الله يودّع بكره الشهيد هادي ويواصل المسيرة حتى أنفاسه الأخيرة… وهناك المئات، إن لم يكن عشرات الآلاف من النماذج المشرّفة من قوافل شهداء بيت المقدس وأكناف بيت المقدس: القاهرين لعدوّهم لا يضرّهم مَن خالفهم وخذلهم غير آبهين بما يصيبهم من “لأواء”، مجسّدين قول أبي الطيب المتنبي: “عش عزيزاً أو مت بين طعن القنا وخفق البنود”، ومتمثّلين قول أمير الشعراء أحمد شوقي ابن النيل: “وللحرية الحمراء باب بكلّ يد مضرّجة يُدقُّ”..
ولأن الشيء بالشيء يذكر، وكلّ شيء يُعرف بضدّه، نرى لزاماً كي تكتمل الصورة التطرق إلى المخالفين والمتخاذلين والمُخذّلين من العرب والمسلمين، وهم ليسوا سواء. فإمّا المخالفين الذين يُبدون وجهات نظر تخالف “طوفان الاقصى” و”المقاومة” عموماً، فلا ضير في ذلك، وليس هناك حجر على الخلاف والاختلاف من حيث المبدأ، ما دام محصوراً في الرأي والرأي المقابل، حتى ولو كان هذا الرأي المقابل يلتقي ويصبّ ويخدم في المحصّلة النهائية أعداء الأمة، ويكفي أن نذكّرهم بقول الله جلّ في علاه إن كانوا مؤمنين: “يا أيُّها الذين آمنوا لا تتّخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبر. قد بيّنّنا لكم الآيات. إن كنتم تعقلون” ـ آل عمران (118). وأمّا المتخاذلين عن نصرة الشعبين الفلسطيني واللبناني ومعهم كافة مقاومي الأمة في حربهم المقدّسة في مواجهة غطرسة “الكيان” المجرم الذي يستهدف عموم العرب والمسلمين بلا استثناء، وسواء أكانوا جيوشاً رسمية أم مدنيين، فلم ولن يطلب منهم أحداً الانخراط في هذه الحرب، لا سمح الله، حيث يصدق فيهم القول الكريم: “لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلّا خَبالاً ولأوضعوا خلالكم يَبغونكم الفتنة وفيكم سمّاعون لهم. والله عليم بالظالمين” ـ التوبة (47). فهم “رَضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطُبع على قلوبهم فهم لا يفقهون” ـ التوبة (87). وأمّا المُخذّلين المتكسّبين المرتزقة، الذين ينفّذون تعليمات المجرمين اللواء الناطق باسم جيش الاحتلال “هاغاري” وشيخهم العميد في الوحده التجسسية 8200 “أفيخاي أدرعي” والأفّاق الناطق باسم الموساد “إيدي كوهين” ويزيدون عليها بل ويجتهدون من عند أنفسهم، فهؤلاء قد وقعوا في جريمة “الخيانة العظمى” وحكمهم الشرعي ورد في الآية 191 من سورة البقرة: “واقتلوهم حيث ثَقِفْتُموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشدُّ من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يُقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين”. ولقد أسهبت آيات القرآن الحكيم في وصفهم لخطورتهم مخاطبة الرسول الخاتم: “وإذا رأيتهم تُعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خُشُب مُسنّدة يحسبون كلّ صيحة عليهم هُمُ العدوُّ فاحذرهم قاتلهم الله أنّى يُؤفَكون” ـ المنافقون (4) ـ “ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنَّهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم” ـ محمد (30). وهو ما ينطبق على الأفراد منهم وكافة منابرهم الفضائية وسائر وسائل إعلامهم وحتى منابرهم في جميع وسائل التواصل الاجتماعي على اختلافها.
وكما يقول المثل العراقي: “ما يحرث الأرض إلّا عجولها”…