في ذكرى وفاة كوكب الشرق، سيدة الغناء العربي، أم كلثوم، التي رحلت في 3 شباط /فبراير 1975، نستعيد هنا بعضا من ملامحها البغدادية، عبر زيارتيها لعاصمة الرشيد، 1932 و1946، فضلا عن المكان الذي ظل يحمل اسمها لتعبر منه أجيال من العراقيين وأهل العاصمة بخاصة، وأغنيتها الوطنية عن بغداد.
في تشرين الثاني 1932، جاءت المطربة أم كلثوم الى بغداد، وكتبت جريدة “الاستقلال” في 17 تشرين الثاني /نوفمبر: “ستصل العاصمة اليوم زعيمة الغناء العربي المطربة النابغة الفذة الآنسة أم كلثوم”، وقبل ذلك بأكثر من عشرة أيام من وصولها، تتالت إعلانات عن استعدادات “ملهى الهلال” لهذه المناسبة، ففي 8 تشرين الثاني نشرت اعلانا جاء فيه: “ابتداء من يوم الاربعاء الموافق 9 تشرين الثاني 1932 ستباع بطاقات هذه الحفلة وكما يلي: “موقع ممتاز في صحن الصالة 500 فلس / موقع ممتاز في البلكونات 500 فلس / موقع أول في صحن الصالة 375 فلساً/ موقع ثانٍ في صحن الصالة 250 فلساً عدا قيمة الطابع”.
وأوضحت ادارة الملهى إن محل السيدات الخاص له مدخل من أول سوق الهرج تجاه دائرة التقاعد، وانه خدمة لراحة السيدات ستقوم بخدمتهن نساء.
ووصلت أم كلثوم الى بغداد يوم 17 تشرين الثاني مع جوقها الموسيقي المكون من: محمد القصبجي (العود)، ابراهيم العريان (القانون ، كريم حلمي (الكمان) ، يوسف متولي (الفيونسيل)، جرجيس سعد علي (الناي)، ابراهيم عفيفي (الدف)، فضلا عن مساعدين هما صالح محمد وعبد العزيز عبد الوهاب.
أحيت أم كلثوم 12 حفلة غنائية عند حلولها في بغداد، وجميعها على مسرح “ملهى الهلال”، الذي تأسس في العام 1919 بمنطقة الميدان وكانت ماريكة ديمتري والدة المطربة الراحلة عفيفة اسكندر، أول اسم فني عرف فيه وما لبث أن صار لاحقا موقع العمل الفني للمطربة الراحلة سليمة مراد.
في يوم 20 تشرين الثاني نشرت جريدة “الاستقلال”: “الآنسة أم كلثوم، ستشجي الجمهور بصوتها الملائكي وستلقي أدوارا وطقاطيق ومنلوجات وقصائد جديدة بصوتها الذي سحر كل من حضر حفلاتها الأولى”.
وأوفدت الجريدة ذاتها أحد محرريها إلى قصر في الطريق إلى الأعظمية أعدّ مقرا لإقامة أم كلثوم التي قالت أن الجمهور في بغداد يحترم الفنانين وهي تشكره للحفاوة التي وجدتها بينهم.
الرصافي يستقبلها في مطار الوشاش
وحملت الجريدة ذاتها مقالاً بعنوان ” سحر بابل وفرعون في أوتيل الهلال” وكتب الصحافي الساخر نوري ثابت في جريدته “حبزبوز” مقالاً طريفاً بعنوان “في استقبال أم كلثوم” وصف فيه استقبالها في (مطار الوشاش) (مطار بغداد الدولي القديم أو المثنى)، حيث وصله مع معروف الرصافي الشاعر وعلي محمود الشيخ علي المحامي في سيارة، وانتظروا ثلاث ساعات في المطار حتى ظهرت الطائرة التي تقل المطربة الكبيرة.
وعندما نزلت من الطائرة قدمها مدير ادارة أعمالها إلى المستقبلين، ليصفها الكاتب الناقد: “سمراء وقد تعصبت بعصابة بنية، وسترت النصف الأسفل من وجهها بشاشة رقيقة سوداء، ثم غطت جسمها من الكتف الى الكعبين بمعطف (مانغو) بني ولفت على رقبتها فرواً ثميناً بني اللون، كما كست قدميها الصغيرتين بحذاء بني اللون أيضاً، فكانت من رأسها الى قدمها (كهوة شكرلية) أى (قهوه سكر زيادة) بالدارجة المصرية “.
وفي “حبزبوز” ذاتها، نشر إعلان طريف يوم 29 تشرين الثاني 1932 جاء فيه “فرصة نادرة… وجود الآنسة أم كلثوم في عاصمة الرشيد، فيجب الا تفوت هذه الفرصة النادرة التي قد لا تصادفك في حياتك مرة أخرى! انك لاشك سمعتها في الاسطوانات، ولكن هل يجوز التيمم مع وجود الماء، وهل الخبر كالعيان؟ اذن فاسرع وعجّل بالذهاب إلى أوتيل الهلال”.
كما نشرت “الإستقلال” في 30 تشرين الثاني بياناً كتبته أم كلثوم جاء فيه: “قدمت هذه البلاد وفي نفسي كل الشوق أليكم وإلى بلادكم المحبوبة وبناء على الضرورة الحاصلة لوجودي في مصر في الخامس عشر من كانون الأول 1932 سأترك هذه البلاد وفي نفسي ذكرى جميلة لما لاقيته منكم من عاطفة وشعور سام يدل على حسن ضيافتكم وعنصركم الطيب. وبهذه المناسبة اتأسف بأن اعلن لكم بأني لا أتمكن من احياء أي حفلة عامة كانت أم خاصة إلا في الليالي المتفق عليها مع إدارة اوتيل الهلال”.
الأوساط الأدبية تحتفي
واقامت الأوساط الادبية والفنية في بغداد بعض حفلات التكريم لأم كلثوم، ففي 3 كانون الاول 1932، ألقى الشاعر معروف الرصافي قصيدته الذائعة، التي نشرتها معظم صحف بغداد في اليوم التالي، وقد ردت أم كلثوم على شاعرنا الكبير بانها ستغني ابياته:
اسمعي لي قبل الرحيل كلاما ودعيني أموت فيك غراما
هاك صبري خذيه تذكرة لي وامنحي جسمي الضنى والسقاما
وقيل إنه وبدافع المجاملة غنت أم كلثوم أغنية سليمة مراد “كلبك صخر جلمود” تقديراً لوجود المطربة العراقية في الحفل، على الرغم من كونها لم تجد لفظ الكلمات البغدادية.
ومن الآثار “الثقافية” التي التي تركتها زيارة أم كلثوم إلى بغداد، أن نظم الرصافي قصيدته الشهيرة في الثناء على سيدة الطرب : “أم كلثوم في فنون الأغاني/ أمة وحدها بهذا الزمان” ، وقصيدة جميل صدقي الزهاوي: “الفن روض أنيق غير مسؤوم/ وأنت بلبله يا أم كلثوم” وقصيدة إبراهيم أدهم الزهاوي: “أم كلثوم دولة تتباهى أرضها/ في وجودها وسماها”، وقصيدة الشيخ باقر الشبيبي الموشحة: “فهيا أيها الغادة/ وغني لي على العادة”، وله أيضاً قصيدة أخرى أشار فيها إلى أم كلثوم قال فيها “صريع الغواني لا تلمني/ فأنني صريع أغاني ام كلثوم”. غير إن الشاعر الشعبي الناقد الملا عبود الكرخي لم يعجبه هذا الهتاف الجماعي لأم كلثوم فكتب كلمة جاء فيها إن “بلاداً كبلاد العراق تعاني ما تعاني من مضض الأزمة ومصائب الفقر والفاقة لا يجوز أن تحتل كراسي اللهو فيها من يجزّ الأموال جزَا وينتزع النقود انتزاعا”، فقد استوفت أم كلثوم عوض الليالي العشر التي أحيتها في العاصمة ألفي دينار!
1946 : أم كلثوم في بلاد ليلى
في عام 1946 زارت أم كلثوم بغداد للمرة الثانية وغنت في عيد ميلاد الملك فيصل الثاني لتكتب نشرته مجلة “الراديو المصري”: “شهدت بغداد ليلتين من أزهى ليالي الرشيد حينما استقلت نفحة الله للشرق ام كلثوم متن الطائرة في صباح يوم الخميس الموافق 2 مايو/ أيار قاصدة إلى أرض ليلى لإحياء ليلة عيد ميلاد الملك الحبيب فيصل الثاني صاحب عرش العراق الشقيق. وقد كانت الحفاوة بأم كلثوم في العراق احتفاء بمصر وبسيدة الفن في مصر، كما كان سفر أم كلثوم لاحياء عيد مليك العراق رسالة عاطفية من القاهرة الى بغداد حملتها أكرم سفيرة للفن المصري”.
وتوضح المجلة المصرية “نزلت طائرة أم كلثوم في مطار الحبانية فوجدت في استقبالها مندوباً عن الوصي على عرش العراق لتقصد إلى القصر الملكي، وهناك تشرفت بمقابلة جلالة الملكة الوالدة وصاحبات السمو الاميرات شقيقات جلالتها وشقيقها سمو الأمير عبد الآله الوصي على العرش الذين غمروها بعطفهم ورعايتهم”.
وفي فندق ريجنت نزلت أم كلثوم ضيفة على الحكومة العراقية وفي المساء ذهبت الى الحفلة الساهرة الكبرى التي اقيمت بحديقة قصر الرحاب وهو مقر سمو الوصي على العرش، و”قد لبست الحديقة حللا زاهرة من الزينات ونسقت المصابيح الكهربائية حتى بدت كما تصفها أم كلثوم كأنها قطوف دانية من فاكهة الربيع”.
غنت أم كلثوم فسهر كثيرون ممن كانوا قادرين على اقتناء أجهزة الراديو، اذ كانت الحفلة مذاعة على الهواء، وكانت البداية مع “يا ليلة العيد” وقد اختتمتها بقولمناسب للحدث: “يا دجلة ميتك عنبر/ وزرعك عالعراق نوّر/ يعيش فيصل ويتهنى / ونحيي له ليالي العيد”، لتعقبها ثلاث وصلات استجابة لرغبات المدعويين انشدت فيها “غني لي شوي شوي” و “كل الأحبة اتنين اتنين” وقصيدة أحمد شوقي: “سلو كؤوس الطلا”.
وكتبت الآنسة نادية الشبيبي وهي إبنة أخ شاعر العراق ووزير معارفه الأسبق السيد رضا الشبيبي قصيدة قدمتها إلى أم كلثوم جاء فيها: يا ربة الفن في دنيا الترانيم……… ويا حديث الملا يا ام كلثوم/ غني الخلائق فالآذان صاغية……..وخففي هم محزون ومهموم / غني لنسمع بنت الدوح صادحة… والدوح لولاك شوك جد مذموم / ورتلي نغما تصفو النفوس له …….فالنفس يطربها عذب الاناغيم”.
لم يكتب عن حفلة أم كلثوم التي أحيتها في قصر الرحاب مطلقاً غير ان للناقد الموسيقي الراحل عبد الوهاب الشيخلي مقالة نشرها في جريدة “كل شيء” العام 1964 جاء فيها: “حين ظهرت ام كلثوم على المسرح الصغير استقبلت بتصفيق خجول وبدأت الفرقة الموسيقية تعزف موسيقى (الليلة عيد) التي أنشدتها في فيلم (دنانير) والذي عرض عام 1940 وهي من كلمات أحمد رامي وألحان رياض السنباطي، وحين ذكرت اسم فيصل الثاني قوبلت بعاصفة من التصفيق وبعد استراحة قصيرة غنت قصيدة (سلو كؤوس الطلا) واذكر انها غنت الأغنية الخفيفة (غنيلي شوي شوي) وعندما أسدل الستار أسرعت بالوقوف قرب ام كلثوم لكن احد الوزراء تقدم اليها وقال: ان الوصي عبد الإله يرجو ان تغني له قصيدة (وحقك أنت المنى والطلب) فاعتذرت قائلة: ان هذه الأغنية قديمة وتتطلب (بروفة) وانها لم تعد تتذكر بعض كلماتها وكان محمد القصبجي قد ادخل نصف العود في كيس من القماش عندما أشارت للفرقة الموسيقية للعودة ومتابعة الحفلة التي امتدت الى الساعة الثالثة صباحاً وبدلاً من القصيدة التي طلب ان يستمع اليها الوصي غنت (كل الأحبة ثنين ثنين) وذكر لي صديقي خالد علي القاضي ان نوري السعيد طلب اغنية (افديه ان حفظ الهوى) فلم تلب طلبه للسبب نفسه. فاتني ان أذكر أنني التقيت بالملحن المبدع محمد القصبجي وتحدثت معه عن الألحان الرائعة التي قدمها إلى أسمهان وأبدى أسفه الشديد لموتها المبكر، والقصبجي هو أستاذ محمد عبد الوهاب وقد قدم لأم كلثوم وغيرها من المطربات عشرات الأغاني التي لها قيمة فنية عظيمة لكن الحظ خانه في سنواته الأخيرة”.
غنت إحتفاءً بالملك .. وإحتفاءً بقتله !
وإذا كانت أم كلثوم حملت من العراق أعلى أوسمته “وسام الرافدين” بعد حفلتها إحتفاءً بعيد ميلاد الملك فيصل الثاني، فهي من غنت إحتفاءً بمقتله في 14 تموز 1958، نزولا عند إرادة نظام جمال عبد الناصر الذي كان يناصب العداء للملكية العراقية، فاعتمادا على قصيدة محمود حسن إسماعيل وألحان رياض السنباطي غنت “بغداد يا قلعة الأسود”.
وعن الإنشودة يقول الإذاعي المصري الراحل وجدي الحكيم ” بعد ثورة 1958 في العراق وكبادرة تحية ومجاملة لثورة تموز وشعب العراق ارتأت قيادة مصر أن تقدم أم كلثوم تحية لشعب العراق، وقامت الإذاعة المصرية بالاتصال بأم كلثوم حتى تقدم هذه التحية”.
وحفلت الإنشودة بنسق موسيقي عال مما رجح أن يكون مقطع من موسيقى تلك الإنشودة لازمة موسيقية لنشرات الأخبار في اذاعة بغداد وتلفزيونها لعقود خلال حكم النظام السابق، لترتبط على الرغم من كلام الفخر واللحن القوي بأكثر المراحل دموية وعنفا في تاريخ العراق المعاصر.
مقهى أم كلثوم
وثمة لسيدة الغناء العربي ملمح آخر في بغداد هو “مقهى أم كلثوم”، والذي أسسه عبد المعين المصلاوي، ليصبح مخصصا لسماع أغاني أم كلثوم حصرا، وما يزال لغاية اليوم قائماً في مدخل شارع الرشيد من جهة ساحة الميدان. كان صاحب المقهى متأثراً بأم كلثوم ويحضر حفلاتها وشارك في تشييعها، وجدران المقهى مغطاة بصورها التي تعكس مراحل حياتها. وثمة من يروي انه عندما توفيت كوكب الشرق عام 1975 أقيمت لها مراسم العزاء في المقهى لثلاثة أيام ، وكان ترتيل القرآن الكريم بصوت المطربة ذاتها.