علمتنا تجارب التاريخ أن من يضع النظريات ليس بالضرورة يحسن تطبيقها، ومن يجترح الافكار قد لا يكون الاقدر على ترجمتها الى برامج عمل ، وبالنتيجة فان المفكر قد يكون رجل دولة فاشل ، ورجل الدولة الناجح ليس مطلوبا منه أن يكون ذا باع في فهم نظريات السياسة ، ولا التعمق في فلسفات تأسيس الدول وبنائها!
نجح كارل ماركس في ان يجعل نصف الكرة الارضية تدين بقوانين نظريته ، لكنه قد يكون حاكما فاشلا لو قيض له ان يخوض امتحان ادارة الدولة كما فشل الكثيرون ممن اعتنقوا الماركسية واستلهموها !
ثنائية ( المنظر والمدبر) و( المناضل والحاكم) ألقت بظلال قاتمة على تجارب سياسية كان يمكن لها ان تكون نماذج ناجحة في التماهي بين النظرية والتطبيق .
الاحزاب الحاكمة تدفع ب( مناضليها ) و( مجاهديها ) الى السلطة فيتحولون الى متسلطين يتقنون فنون القهر والقمع والترويض بدلا من ان يكونوا رجال دولة يحسنون فن الادارة ،وانعاش الاقتصاد ، ووضع المجتمعات على مسارات الرقي والنهوض.
حدث هذا مع الاحزاب القومية والماركسية في عقود مضت ، ويحدث اليوم مع الاحزاب الدينية في تجارب يجمع بينها مشترك الفشل والطمع بالسلطة ، والانغماس في ممارسات فساد تنخر تلك الاحزاب ، وتسقطها قبل ان تقوض مقومات الدولة وتهشمها!
الدول الناجحة لا تدار من مسجد ، ولا من حسينية ، ولا من تكية ، ولا من مكتب سياسي لحزب منكفئ على معتقدات أضيق من ان تتقبل الآخر، وتقبله ، وتستوعبه ، وتتفاعل معه.
الافكار المحنطة بقوالب التزمت قد تنجح في انتاج رجال متزمتين يديرون السلطة بهراوة ( الادلجة ) والقهر، لكنها لن ترتقي الى تأسيس دولة المواطنة والتنوع والتسامح والانفتاح على الاخر .
باستثناء لينين وماتوسي تونغ لم يحدثنا التاريخ عن قادة جمعوا بين ( عمق التنظير) و( حسن التدبير) ، ومن حاول أن يجمع بينهما من غير مؤهلات قيادية ، ولا تأصيل نظري صنع تجربة هجينة ( حصدت) نتائج كارثية مريعة! .
بالعودة الى الرئيس عادل عبد المهدي فانه نهل من مشارب فكرية متنوعة ، وعمل في صفوف احزاب متقاطعة في مواقفها وفلسفاتها ورؤاها ، وارى ان في التنقل من البعث الى الماركسية ثم الى الاسلام السياسي مصدر غنى وغزارة لا سبب فشل وتصحر وضمور وانكفاء وقصر نظر.
مع اول امتحان لـ( التنظير) في مدرسة (التدبير) كانت نتيجة عبد المهدي رسوبا في جميع الدروس.
حين يكتب في الاقتصاد تظنه تلميذا نابها لآدم سمث ، واذ يتحدث في السياسة يتبادر الى الذهن بان السياسة قد عجنته في مطابخها ، وصقلته في دهاليزها ،حتى خبر خفاياها ، وخاض في تجاربها ما يؤهله لان يكون رجل دولة من طراز نادر.
أرى ان عادل عبد المهدي الاكثر ثقافة من بين أقرانه الاسلاميين ، والأكثر قربا من العلمانيين بحكم تاريخ طويل من العمل الحزبي قضاه في صفوف احزاب عراقية صاغت تاريخ العراق الحديث دون منافس ، وهذه خصال تحسب له ولا تسجل عليه ! .
لقد وقع الرجل في الفجوة التاريخية بين النظرية والتطبيق ، تلك الفجوة التي فككت دولا، واسقطت نظريات سياسية ، وافشلت قادة ومنظرين سعوا للجمع بين ان يكونوا (مفكرين) و(سلاطين) في آن معا فسقطوا في هاوية الفجوة التي ابتلعتهم وغيبت تجاربهم في غيابة جب من التخبط والفوضى! .
أثقل رئيس الوزراء العراقي حكومته ببرنامج ،هو يعلم قبل غيره، ان تنفيذه في واقع كالواقع العراقي الشائك والمتشابك اشبه بإدخال الجمل في سم الخياط ، وقبل ذلك رضي بمنصب انتجته التوافقات ، ومع رضاه بالمنصب التوافقي روض نفسه ليكون توفيقيا في بيئة لا تحتمل التوفيقية ، ولا اللعب على حبال الخلافات والاختلافات الا لزمن محسوب وغايات معروفة! .
عليه اذن ان يرضي طرفا ويسترضي آخر لكي يبقي على خيار التفاهم ويتحاشى التصادم ، أما على المستوى الاقليمي والدولي فعليه أن يكون ناعم الملمس مع امريكا ، مطيعا مع ايران ، وأن ينأى بنفسه عن سهام الطرفين ، ويكون خارج مرمى الرصاص المتقابل .
على المستوى الاقتصادي فشلت حكومة عبد المهدي فشلا غير مسبوق في تقنين الانفاق الحكومي ، وايقاف النزيف المالي الذي ستنتج عنه كوارث مستقبلية حذر منها صندوق النقد الدولي ، وقرع خبراء المال والاقتصاد جرس الانذار من مآلاتها الخطيرة! .
السياسة الاقتصادية للحكومة تقوم على قاعدة ( اصرف ما في الجيب ) ، وقريبا سيكتشف عبد المهدي ان جيوب حكومته مليئة بالثقوب ، وان ماكنات الفساد قد تم تزييتها واعيد تأهيلها في ظل ارتخاء القوانين الرادعة ، وسبات الجهات الرقابية او تنويمها ، وغياب شبه تام لدور الادعاء العام ، وضعف المنظومة القضائية المتأتي من ضعف الحكومة وهشاشتها! .
ليس لدى عبد المهدي اجابات شافية او واضحة على الاقل عن ارسال آلاف المليارات من الدنانير الى كردستان من غير ان يعطي الاقليم دولارا واحدا من نفطه الى الحكومة الاتحادية ، مع مجهولية مصير الاموال التي تجبى من المنافذ الحدودية للإقليم الكردي ، راجعوا اجابات عبد المهدي حول هذا الملف ستكتشفون ان الرجل اما انه لا يعلم بما يجري حوله، او انه مغلوب على أمره! .
في الملف الامني رفع عبد المهدي شعار ( حصر السلاح بيد الدولة ) فانقلب شعاره عليه لتكون الدولة سلاحا بيد الفصائل المسلحة، والعوبة بيد الخارجين عن القانون ، وامره الديواني عن الحشد الشعبي وما رافقه استهزاء وسخرية بمقدرات الدولة أنموذج يحكي تراجيديا الانفلات والفوضى! .
لو بحثنا عن منجزات الحكومة المهدية لحصرناها برفع الحواجز الكونكريتية من شوارع العاصمة، وفتح طريق المطار ، وفك مغاليق المنطقة الخضراء ، وتلك اجراءات تتكفل بها الإدارات البلدية ولا تحتاج الى ان يشغل رئيس الحكومة نفسه، ويهدر وقته في متابعتها والحديث عنها! .