بقلم: أحمد صبري
لعلَّ ما يميِّز الباحث البغدادي حميد خليل القيسي عن أقرانه من الباحثين أنَّه تحوَّل بفعل جهده في تسليط الضَّوء على تاريخ مدينة بحجم بغداد تمتدُّ جذورها إلى عُمق التَّاريخ تحوَّل إلى مرجعٍ؛ جرَّاء شغَفه بتاريخ بغداد ودَوْرها في الحياة الإنسانيَّة، ومؤلَّفات الكاتب الخمسة تُظهر شغَفه بتتبُّع مسار مدينة تحوَّلت إلى مستودع روحي ما زال يرنو إِلَيْه عشَّاق بغداد كمدينةٍ مفعمةٍ بالحياة، ورمح الله بالأرض ومرتكزه وجمجمة الحضارة وعقل الإنسانيَّة النَّاطق بالحكمة والمعرفة.. كما جاء في مقدِّمة كتاب (شذرات بغداديَّة) لمؤلِّفه القيسي الَّذي صدَر في بغداد مؤخرًا.
لقد أبرزَ المؤلِّف الحياة البغداديَّة في الكثير من إرثِ أهْلِها بمثابة نافذة على القرن الماضي وتفاصيله، وحيِّزًا تاريخيًّا يلامس الحاضر والمستقبل، كما لامَسَ الماضي برِجاله وأحداثه.
ومِثلما أنار المؤلِّف في (شذرات بغداديَّة) الطَّريق لتتبُّعِ أزقَّة وشوارع وشخصيَّات بَيْنَ ثنايا الأزمان المتعاقبة والأمكنة، والشَّواهد التَّاريخيَّة وعمرها عشرة قرون، فإنَّه بذات الوقت كان يتحرَّى الأصول البغداديَّة بشواخصها ومعالِمها وعراقة أهْلِها.
وفي معرض توقُّفه عِند أحَد فصول الكِتاب، يصِفُ المؤلِّف بغداد بأنَّها دار السَّلام، وهي مدينة تمتدُّ جذورها إلى عُمق التَّاريخ ترفضُ أن تغادرَ أفئدة الشُّعراء وإبداع العلماء، واعتبرت بستان القضاء بالعدل وأسماها (أبو جعفر المنصور وحكمها (149) حاكمًا) وآخر احتلال لبغداد كان الاحتلال الأميركي عام 2003م.
ويتساءل المؤلِّف في أحَد فصول كِتابه عمَّا هو الوطن ويورد قولًا للفيلسوف الفرنسي (جان جاك روسو) الوطن هو المكان الَّذي لا يبلغ فيه مواطن من الثَّراء ما يجعله قادرًا على شراء مواطن آخر، ولا يبلغ فيه مواطن من الفقر ما يجعله مضطرًّا أن يبيعَ نَفْسه أو كرامته، وأخيرًا الوطن هو رغيف الخبز والشُّعور بالانتماء.
وينقلك المؤلِّف في أحَد فصول كِتابه من الفضاء البغدادي الخاصِّ إلى الفضاءات الإنسانيَّة العامَّة الَّذي يخصُّ الدِّين والحياة لِيكُونَ أكثر الفصول تعبيرًا عن خصوصيَّات العلاقات الإنسانيَّة داخل الفواعل المتراكمة بعواطف الإنسان البغدادي، وتجسيدًا للعوالم الداخليَّة المصغَّرة لأهْلِ المدينة.
لقد تحوَّلت مؤلَّفات الكاتب إلى نافذة على القرن الماضي في الكثير من تفاصيله وجزئيَّاته، وحرزًا تاريخيًّا يُلامس الحاضر والمستقبل كما لامَسَ الماضي برِجاله وأحداثه وأطلاله ستوفِّر للقارئ خِطابًا جَماليًّا بعراقتِه يجمع بَيْنَ دفَّتَيْه أسماء ورجالًا وشواهد مكانيَّة وتاريخيَّة لم يجمعْها زمن واحد، كنَّا قد تنفَّسنا جميعًا على أرض مدينة شامخة ومشرقة وبهيَّة نَفْسًا أصيلًا واحدًا.
لقد جالَ المؤلِّف حميد خليل القيسي في فضاء بغداد وعوالمها في رحلة مليئة بالأحداث، لِيضعَ بغداد في الموضع الَّذي يجِبُ أن تتصدرَ مثيلاتها في العالَم لِتحكيَ قصَّة مدينة باسلة، كانت وستبقى عصيَّة على مَن يسعَى لسرقةِ مَجْدِها.
والتَّقليل من دَوْرها التَّنويري الَّذي كان يضيء الدُّروب من عتمة التَّخلُّف والضَّياع والهدم، وكانت شاهدًا على دَوْرها في الحياة الإنسانيَّة في سفرها المَجيد.
كاتب عراقي