سريبرينيتسا الأنبار
فصل جديد في مخطط التحالف الامريكي الايراني سلام الرفاعي .
عضو المكتب السياسي للتحالف العربي العراقي
على منوال ابن خلدون وأصحاب المنهج الحتمي يمكن القول بأن التاريخ عبارة عن فصول ومشاهد تعيد نفسها بين الحين والآخر فتتشابه الأحداث وتتماثل المصالح التي تقف خلفها رغم اختلاف الأماكن والمسميات والأسماء التي تضطلع بدور البطولة في كل مرحلة. وهذا المنهج يعيد الى الواجهة حالة التماثل بين صور الانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان ولأعمال الابادة للجنس البشري التي ارتكبت في مدينة سريبرينتسا البوسنية المسلمة وبين ما يجري في الفلوجة اليوم وفي سائر مدن أهل السنة في العراق على غرار مدن البوسنة والهرسك. ففي شهر إبريل من العام 1993 أعلنت الأمم المتحدة ( التي كانت حينها خاضعة للقرار الأمريكي كليا ) أعلنت بلدة سريبرينيتسا الواقعة في وادي درينا في شمال شرق البوسنة “منطقة آمنة” تحت حماية قوات الأمم المتحدة ممثلة بعناصر الكتيبة الهولندية في قوات الأمم المتحدة والتي يبلغ تعدادها 400 عنصر وبناءً على ذلك قام المتطوعون البوسنيون الذين كانوا يدافعون عن المدينة بتسليم أسلحتهم . إلا أن إعلان المدينة كمنطقة آمنة تحت حماية الامم المتحدة لم يحل دون وقوع المجزرة كما أن عناصر الكتيبة الهولندية لم يتدخلوا لأجل حماية سكان البلدة ذوي الأغلبية المسلمة فجرى ذبح عشرات الآلاف من الأبرياء في أيام قلائل وبقرت بطون النساء وانتهكت اعراض الفتيات حتى الأطفال منهن ودفن الكثير من الضحايا وهم أحياء وتعرض المسلمون للإذلال الذي يفوق حتى ما تعرض له اليهود أيام الهولوكست اليهودي دون أن يتحرك أحد لإيقاف هذه الأعمال الانتقامية الخسيسة التي وصفها الأمين العام للأمم المتحدة حينها بأنها من أقذر أعمال الابادة والتصفيات العرقية منذ الحرب العالمية الثانية. والغريب في الأمر وهو ما يهمنا في مقالنا اليوم هو الدورين الأمريكي والإيراني في مذابح البوسنة والهرسك عموما وفي مآساة سريبرينتسا على وجه التحديد لنفهم بعد ذلك ما جرى وما يجري في عموم مدن أهل السنة في العراق وفي مدن محافظة الأنبار على وجه الخصوص. لقد كشف الأحداث أن الحرس الثوري الايراني هو من نقل السلاح والمعدات الى البوسنيين ونفذ أيضا الكثير من العمليات السرية هناك لا حبا في المسلمين البوسنيين ولكن لاستثمار واقع التحول الحاصل في البلاد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ودخول يوغسلافيا السابقة على خط التفتيت وفقا للمشروع الأمريكي لمنطقة البلقان فانطلقت الذراع الايرانية لتحول الساحة البوسنية الى منطقة نفوذ لها وتكفلت أذرعها الداخلية الممثلة بالحرس الثوري وقوات التعبئة وكذلك أذرعها الخارجية المتمثلة أساسا بحزب الله اللبناني بمهمة وضع اليد على المناطق البوسنية بحجة حمايتها من التهديدات الصربية والتي تبين فيما بعد أنها لم تكن الا سياسة توريط للمسلمين هناك في أتون حرب أهلية لن تصب في صالحهم بالمحصلة النهائية للصراع لعد أسباب منها. 1 – ان الصرب هم جزء من الكنيسة الأرثوذكسية ولن يسمح الروس مطلقا بتغيير الموازين في يوغسلافيا لغير كفتهم مما يشجع المسلمين في روسيا على طلب الاستقلال . 2 – ان الايرانيين أنفسهم لم يفعلوا شيئا للمسلمين في البوسنة عند وقوع المذابح البشعة هناك وبطريقة تماثل مواقفهم في كل مرة تذبح فيها غزة او لبنان بعد أن تورطهم في مواجهة اسرائيل وتتركهم ليواجهوا الموت دون معين. 3 – ان أمريكا عبر الأمم المتحدة وأوربا عبر هولندا والقوات الدولية كانت متورطة الى النخاع في تلك الجرائم حتى تصبح شماعة لشن الحرب على يوغسلافيا السابقة. والدليل ان صور الأقمار الصناعية التي عرضتها مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك في اجتماع مجلس الأمن يوم 10 حزيران 1995 والتي تظهر فيها مكان دفن ألاف المسلمين من البوسنة من المدنيين ولا سيما الذكور الذين تم قتلهم من قبل الجيش الصربي ودفنهم في حقل زراعي قرب بلدة Nova Kasaba على بعد 19 كم من سربرنتسا، لم يتم العثور في تلك المقابر الجماعية الا على 33 جثة فقط في المكان المذكور بينما تم العثور على أكثر من 4000 جثة في 20 موقع على أطراف بلدة سربرنتسا مما يبعث الكثير من التساؤلات عن الدور الأمريكي في صرف الانتباه عن المكان الحقيقي للمجزرة. ومما يزيد من حجم الفضيحة الأمريكية في تلك الأحداث القذرة هو ذلك التكريم الذي حظي به مجرموا الحرب في البوسنة من الصرب، فالرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش اثناء محاكمته ظهر في ما يفترض أنها قاعة محاكمة جنائية دولية وهو يجلس بلا قيود ولا قفص اتهام وفي مواجهة قضاته على طاولة مستديرة وأمامه جهاز الكومبيوتر وهو بكامل قيافته المدنية وكأنه على وشك تأدية القسم لفترة رئاسية جديدة ثم ترك ليموت بهدوء في منتجع أعد له لهذا الغرض. في حين ترك مجرم الحرب الاول ورئيس أركان الجيش الصربي الجنرال رادوفان كاراديتش طليقا بحجة التخفي ليعلن عن وفاته بعد قرابة العقدين من الزمن بصورة طبيعية. أي أن الأقمار الاصطناعية الأمريكية التي التقطت صور المذابح ومواقع المقابر ( رغم تضليلها للمواقع الحقيقة ) في البوسنة ، والتي تتبعت الرئيس العراقي صدام حسين في العراق وألقت عليه القبض من مخبئ سري تحت الأرض والتي وصلت الى بن لادن وقامت بتصفيته لم تكن قادرة على معرفة مكان اختفاء كاراديتش لمجرد انه أطلق لحيته !! وكذلك الأمر بالنسبة لقادة المليشيات الصربية التي عملت بإمرته ونفذت من المجازر مالا يطيب لأحد ذكرها لبشاعة الصور فيها. وبنفس الطريقة رعت الولايات المتحدة الأمريكية النهج الايراني لتأسيس مليشيات القتل الطائفي في العراق ومهدت لها الطريق لتطهير مدن كثيرة من السنة في ديالى وتكريت وأحزمة بغداد وصولا الى الانبار . والعجيب في عنصر التشابه أن الولايات المتحدة الأمريكية التي تملك القرار العسكري الفعلي في العراق لا تحرك ساكنا إزاء جرائم هذه المليشيات بل وتقدم لها الدعم الجوي الضارب وخدمة الاستشارة العسكرية في المعارك التي تخوضها في مدن أهل السنة في العراق وسوريا بينما يرفع كل منهما شعارات الموت للآخر بطريقة باتت مضحكة ومثيرة للقرف . ان حقيقة هذا التخادم في المصالح الأمريكية – الايرانية – المليشياوية عبر عنه السفير الأمريكي الحالي في العراق بأن (( بلاده لا تتعامل مع المليشيات الشيعية في العراق بطريقة مباشرة )) والحليم تكفيه الاشارة . ان المتتبع للدورين الأمريكي والإيراني في مجازر يوغسلافيا السابقة بهدف تقسيمها الى ما هي عليها الآن بماثل كلا الدورين حاليا في العراق وسوريا. وجرائم الابادة التي تتعرض لها مدن الأنبار وتكريت وديالى وحلب وحمص وحماه لا تختلف أبدا عن جرائم سريبرينتسا والبوسنة والتي ستبقى وصمة عار في جبين مرتكبيها الى يوم الدينونة . أن هذا التخادم الأمريكي الايراني ناجم عن شعور كلا الطرفين بأن صعود خطاب الهوية الاسلامية سيقضي على مشروع القرن الأمريكي من ناحية وعلى أحلام ايران التوسعية التي تستخدم من الدين والمذهب ومن الشيعة العرب وقودا لها. ان الصحوة الاسلامية والعربية تعني بلا شك أن إيران لن يكون لها ألا أن تتبع العرب والمسلمين كما كان أمرها بعد الفتح باعتبارها من أمصار الاسلام أو تضع نفسها وباختيارها في مواجهة المسلمين. وكذلك الأمر بالنسبة الى الولايات المتحدة الأمريكية التي تصاعد فيها خطاب الدين والتكليف الآلهي على حد تعبير أغلب قادتها من أيام رونالد ريغن والتي أصبحت على يقين بان عدوها القادم هو الاسلام وان المعركة الحقيقية التي غيبت لفترة طويلة هي مع المسلمين على حد تعبير كولن باول ومعظم منظري اليمين الأمريكي المعاصر. هكذا التقت المصالح والأهداف الأمريكية والإيرانية في تدمير بلدان العرب باعتبارهم مادة الاسلام وفي تدمير ثلاثية القوة في الأمة المتمثلة في العراق وسوريا في حين لا تزال المحاولات جارية لإلحاق مصر بمصير الشقيقين المذبوحين في بغداد والشام باليد الايرانية. الا أن الأكثر ايلاما هو هذا الاندفاع من أبناء العشائر العربية في الوسط والجنوب لخدمة المشروعين الأمريكي والإيراني سواء عن معرفة أو عن جهل بنوايا كلا الطرفين في العراق وفي المنطقة برمتها. لأن التاريخ سيذكر هذه الأيام و سيذكر أيضا من قام بذبح أهله اكراما للغرباء ولن ينفع ساعتها الاعتذار بالجهل أو بالتقيد بأوامر المرجعيات والعمل بموجب التقليد الأعمى لهذه الأوامر. والتاريخ لا يرحم ودروسه في ذلك أكثر من أن تذكر.