خريف انطوني هوبكنز الحزين في فيلم ” الاب”
علي حمود الحسن
لا عجب من إصرار فلوريان زيلر المخرج المسرحي والكاتب الروائي والسيناريست، والمخرج السينمائي فيما بعد، على ان يكون الممثل الإنكليزي المخضرم انطوني هوبكنز (82) عاما، بطلا لفيلمه الأول المقتبس عن مسرحية الفها قبل اثني عشر عاما بعنوان” الاب”(2020)، فهو يعرف تماما، إن هوبكنز واحد من أبرزعمالقة التمثيل في عصرنا، اذ يستطيع التحكم بالسيطرة على جسده وانفعالاته، والتعبير عن أعمق المشاعر والاحاسيس الإنسانية من خلاله، حيث يكون الوجه الانساني ـ العينان على وجه الخصوص ـ وسيلته التعبيرية عن البشاعة، والعار، والكراهية، والنكوص الانساني، وفي فيلم ” الاب “عن الخرف والمشاعر المضطربة وفقدان الذكرة، وفعلا نجح هوبكنز بتجسيد شخصية انطوني – اختيار الاسم ليس عفويا- المهندس المتقاعد الوسيم الذي يعيش راضيا في شقة فارهة وسط لندن بين كتبه وموسيقاه، لكن وفاة زوجته وبنته الصغرى لوسي، التي لا نراها في الفيلم، لكنها حاضرة في ذهنه المشوش، تقلب حياته رأسا على عقب، وشيئا فشيئا يفقد قدرته على تذكر الأشياء والأماكن، من دون أن يفقد حدة ذكائه وخفة روحه، تحاول ابنته الكبرى آن(الممثلة الإنكليزية أوليفيا كوفمان) التخفيف من وطأة حالته، التي صارت مرضا يتفاقم يوما بعد يوم، وذلك بتفانيها في خدمته وتلبية رغباته، على الرغم من قسوته في التعامل معها، فهو يفضل عليها ابنته الصغرى لوسي الرسامة، الي لا يصدق موتها، لكنها لا تبالي، تضطر الى نقله الى شقتها للعناية به، لكنه يصر على انه في شقته، حيث كتبه وموسيقاه التي لا يستغني عنها(أصوات الاوبرا)، تتفاقم حالته ونكاد لا نعرف عمن يتحدث، اذ اختلطت عليه الأمور فثمة انزياحات في الماضي والحاضر والمستقبل، تتداخل من خلال هلوساته وانثيالاته، يتحول الاب الى عبء ولا تستطيع العناية به طول الوقت، تستعين بممرضة للعناية به، لكنه يرفضها بقسوة ويتهمها بسرقة ساعته التي لا يكاد يفارقها(ربما لأنه يريد ان يسيطر على الزمن بعد ان تشوشت الذاكرة، اذ لا أماكن ولا اشخاص ) ولا تنفع معه ممرضات اخريات، ما يجعلها تنقله الى مصحة، فتتوالى انهياراته الى حد الاستنجاد بأمه، ففي المشهد الأخير ينهار ببكاء هستيري، فيما تمسد الممرضة على كتفه بحنو أم رؤوم.
على الرغم من عبقرية كاتب السيناريو الشهير هاملتون، الذي شاركه المخرج أفلمة مسرحية ” الاب”، الا ان ظلال المسرح واضحة وبينة على الفيلم فالشخصيات لا تتجاوز الست والحوارات مطولة والمكان واحد وان تغيرت بشكل طفيف إكسسوارات الشقة التي تقع فيها الاحداث، ويبدو ان زيلر واع تماما لكل هذا، اذ راهن على ممثل على شاكلة هوبكنز لتحمل أعباء الفيلم، وفعلا وصل هوبكنز بالأداء التمثيلي الى نهاياته القصوى، الى حد ان بعض النقاد (وان كان رأيا متطرفا) عد الفيلم عبارة عن أداء فردي(مونودراما) لصاحب “صمت الحملان”، وكل هذا لم يكن يحدث لولا عظمة وتمكن الممثلة الإنكليزية أوفيليا كوفمان (آن) باعتراف هوبكنز نفسه.
أنقذ الحضور الطاغي لهوبكنز وكوفمان وعبقرية هاملتون وزيلر، اللذين رسما الشخصيات والاحداث بحنكة وابتكار، على محدودية المكان والشخصيات، البناء السردي من الترهل والايقاع البطيء، فكانت تنقلات الكاميرا والتغير في الإضاءة والألوان وخفة أداء هوبكنز الذي كان طريفا مرحا، ثم يتحول فجأة الى وحش كاسر، بعدها ينقلب عجوزا قاسيا خبيثا، ليعود ثانية حانيا يستذكر ابنته لوسي التي يصر على وجودها ويرفض موتها، هذه الانفعالات عبر عنها هوبكنز بأريحية وبلا جهد، فليس غير “صاحب أسد” من يستطيع ان يصور هلوسات وكوابيس الخرف من وجهة الشخصية المريضة، وبهذا استحق أوسكار أفضل ممثل لهذا العام، تماما كما استحق كريستوفر هاملتون والمخرج زيلر جائزة افضل سيناريو مقتبس مناصفة.
حقق ” الاب” نجاحا كبيرا على الصعيد النقدي والجماهيري وكسب تعاطف كل من شاهده لموضوعته الإنسانية التي تمس شغاف قلوب الناس.