رئيس التحرير / د. اسماعيل الجنابي
السبت,19 أكتوبر, 2024

تعرّف على مشروع روميو “للتجسس الجنسي”

وكانت “شتازي” واحدة من وكالات الاستخبارات والشرطة السرية الأكثر فاعلية وقمعاً على مستوى العالم إبّان الحرب الباردة، وكانت تمثل جهاز الاستخبارات في ألمانيا الشرقية وتم تصنيفها على أنها أكثر أجهزة الاستخبارات انضباطاً واحترافية وخطورة. حيث كان تجسس ألمانيا الشرقية على ألمانيا الغربية أمراً بالغ الأهمية، وحينها برزت الحاجة إلى جهاز استخبارات خارجي فكانت إدارة الاستطلاع الرئيسية.

وكان “ماركوس ولف” مدير إدارة الاستطلاع الرئيسية في “شتازي” أو ما يعرف بـ ” ايتش في أيه” التي كانت مسؤولة عن الاستخبارات الخارجية والتدابير الفعالة ومكافحة التجسس والعمليات الخارجية، وكانت تستهدف الدول الحليفة للناتو على وجه الخصوص، وقد لَقّب ماركوس ولف بـ “رجل بلا وجه”، فلأكثر من ثلاثة عقود تقريباً لم تعرف أجهزة الاستخبارات الغربية شكل ملامحه، وأول صورة رأوها له ومكنتهم من التعرف عليه للمرة الأولى كانت في الثمانينات.

وولد “ولف” عام 1923 في هيشيغن لأب شيوعي ألماني بارز كان طبيبا يدعى “فغيدغش ولف”، ونظرا إلى كون “ولف” يهيوديا فقد شعر بالجزع الشديد إزاء استيلاء هتلر على مقاليد السلطة في العام 1933 وهرب برفقة عائلته إلى الاتحاد السوفييتي واستقروا بعد الحرب في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وجد الروس فيه ما كانوا يبحثون عنه فعينوه رئيسا لجهاز الاستخبارات الخارجية.

وكان “ولف” عبقرياً في التعامل مع ذلك التحدي، فقد قاد جيشاً بلغ في ذروته ما يقرب من أربعة آلاف عميل ينشطون في ألمانيا الغربية. حيث أصبح التجسس على ألمانيا الغربية هاجساً لدى “ولف” وقد حقق نجاحات كثيرة وتمكن من اختراق حكومة ألمانيا الغربية عدة مرات، كان أبرزها عن طريق “غيوم” مساعد المستشار “يلي براندت”.

وكان “غيوم” مصاحبا للمستشار على الدوام وامتلك صلاحية الولوج إلى كل شيء، الأمر يشبه عمل مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي لصالح جهاز استخبارات أجنبي، ولا شك أنه أمر كارثي بالنسبة إلى جهاز مكافحة التجسس، وهذا ما كان ولف قادراً على إنجازه.

يذكر أنه كانت من بين خطط التجسس الإبداعية الكثيرة لـ “ولف” طريقة مدروسة ومبتكرة لتجنيد النساء اللواتي يمتلكن إمكانية الولوج للأسرار، أطلق عليها اسم “مشروع روميو”.  حيث أدرك “ولف” أن مشكلة العلاقة “الجنسية” تكمن في أنها لن توفر المعلومات إلا لمدة قصيرة ولمس الحاجة إلى العثور على طريقة للضغط على المصدر لتوفير المعلومات على مدة طويلة من الزمن، والطريقة الأمثل لفعل ذلك هي الحب.

فعملاء “شتازي” الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و 35 يخضعون إلى تدريبات خاصة بفن الإغواء، وقد خضع الضباط إلى تدريبات ضمن نظام من الفصول الدراسية وشملت التدريبات تعلم أساليب مغازلة النساء وتلبية احتياجاتهن والمحافظة على نظافتهم الشخصية والتقيد بآداب السلوك، والبحث في دراسات الحالة واستيعاب المقاربات المختلفة التي من المرجح أن تكون الأكثر نجاحاً، وكانوا يصقلون العملية باستمرار.

وكان “ولف” يبحث في المقام الأول عن الموثوقية السياسية الكاملة لأنه كان ماركسيا لينينياً متشدداً، وكان يبحث أيضاً عن شخص انتهازي، فجميع وكالات الاستخبارات تهتم بذلك النوع من الأشخاص.

وأحد أكثر المجالات التي برع فيها “الشتازي” هي إجراء البحث الموجه، إذ كانت استهدافاتهم تعتمد على معلومات يجمعونها عن خلفية الشخص، فقد كانوا يبحثون في السجلات العامة كما كان لديهم أشخاص يستطلعون الحي ويقابلون الناس ويلاحظون تحركات هذه الأهداف للتعرف على نمط حياتهم وعاداتهم الشخصية وعندما يرسلون جاسوس روميو إلى تلك المرأة يكونون قد أحاطوه بقدر كبير من المعلومات عنها مسبقاً ووضعوا تحليلا نفسيا لها، فقد امتلك عناصر شتازي مهارات التحليل النفسي ففي معظم الأحيان كان لدى النساء ببساطة شعور بالوحدة وربما إحساس بأن الحياة قد مرت، كان هدفهم المرأة التي تبحث عن إمكانية إقامة علاقة، وبعد ذلك يختار الطبيب النفسي في شتازي الشخص الذي يلبي تلك الاحتياجات والذي يرجح أن ترغب به المرأة المستهدفة، وكان من بين الأهداف نساء يعملن لصالح رجال ذوي مكانة رفيعة في حكومة ألمانيا الغربية وذلك لأنهن يمثلن الخاصرة الرخوة، فالجميع يعلم أن للسكرتيرة الماهرة الولوج لجميع المعلومات التي يملكها مديرها لأنها تستمع لما يجري، فالأمر لا يتعلق بالوثائق التي تنقلها فحسب بل بالأشياء التي تسمعها أيضا فهي على دراية بالجو العام للمكتب والشخصيات لذلك ستكون طريقا سهلا للحصول على ما يريدون.

لقى 5 ملايين شخص ألماني حتفهم في الحرب وكانت النسبة العظمى منهم رجالا في مقتبل العمر، لذا انخفض عددهم انخفاضا كبيرا وشكلت النساء نسبة كبيرة من القوى العاملة والكثير منهن عازبات، فاستغلت وكالات الاستخبارات الوضع.

وبحلول أواخر السبعينات قدّر تقرير بريطاني عدد عمليات التجنيد ضمن مشروع روميو بما يقارب 48 عملية قيد الإنجاز.

الوقوع بالحب هو تماما ما كان يعول عليه “ماركوس ولف” و”شتازي” لذا كانت النساء لقمة سائغة لاستغلالهن لأنهن سيفعلن ذلك بدافع الحب، لكن وراء ذلك كنّ يعلمن أنهن يقمن بخيانة صاحب العمل ويقمن بتسريب معلومات إلى منظمة أجنبية أو منظمة يمينية متطرفة في ألمانيا الغربية.

لا بد الإشادة بـ”شتازي”، فقد كانوا يعلمون ما يفعلون تماما وكانوا يبلون بلاءً حسناً، فقد كانت التكاليف البشرية مروعة لكن شتازي لم يبالوا بذلك إذ كانت النساء سلع إستهلاكية في نظرهم، فقد تكلموا بوضوح أنه ليس من شأنهم القلق حيال الدمار الذي يتسببون به لتلك النساء في حياتهن الشخصية، لم يأخذوا ذلك بعين الإعتبارأبدا وكان ذلك إبتزازاً عاطفياً وكانوا بارعين في إدائه، فقد جند “ماركوس” ولف ما بين 50 الى 80 امرأة من ألمانيا الغربية ليعملن جاسوسات خلال “عملية روميو”.

كان تلاعبا إستثنائياً للغاية وكان من شأنه أن ينتج على المدى الطويل معلومات إستخباراتية يمكن توظيفها وكان ناجحا في ذلك، وقد أعجبت الـ “كيه بي جي” بذلك وبدأت بتنفيذه.

عام 1989 سقط جدار برلين وتلت ذلك إعادة توحيد ألمانيا عام 1990 ونهاية مشروع روميو الذي صممه ولف، وبعد إعادة توحي ألمانيا فرَّ ماركوس ولف إلى موسكو وسلم نفسه في نهاية المطاف إلى معبرٍ حدودي في بافاريا، وفي العام 1993 وجهت إليه تهمة الخيانة وحكم عليه بالسجن لمدة 6 أعوام، عُلّق الحكم لاحقا بحجة أن أنشطته كانت قانونية في ألمانيا الشرقية الشيوعية.

 

اقرأ أيضا

الرابط المختصر

أخبار ذات صلة

Next Post

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.