أحمد الكبيسي ” هذه المخادعة “
بقلم: سيار الجميل
عندما التقيتُه في ندوةٍ عامةٍ في عمّان في 1998، وكنا من المشاركين فيها، وجدت الداعية العراقي، الشيخ أحمد الكبيسي، أكثر قدرة على معالجة الأمور مما آل إليه حاله اليوم. وعندما كنّا نلتقي في دار الصديق المرحوم الدكتور علي النميري في دبي 2003 – 2004، بصدد تأسيس المنتدى العراقي رفقة أصدقاء عراقيين أغلبهم أحياء يُرزقون، كنتُ أخالفه في ما يطرح من أفكار. ولكنني اليوم أستهجن ما يصدر عنه من آراء، وما يطلق من أحكام، إذ بقيت أسمع، بين حين وآخر، ما يصرّح به سياسّياً أو دينياً أو طائفيا، أو يذهب كالأعمى إلى مظان التاريخ، فيسلخ منه سلخاً، ويمسخ الحقائق مسخاً، فأنتقده بمرارة لما يتفوّه به من غريب التناقضات.
ولعلّ ما يعنيني أصلاً ما يطلق الشيخ أحمد الكبيسي من آراء لا تعقل، وما يتخذ من مواقف لا تقبل، كنت أعزوها إلى افتقاد التوازن في تصريحات عبثيّة، أو مطلقات ساذجة، أو هفواتٍ بليغةٍ، إذ بلغت أخيرا أقصى درجات الهذيان. لا يهمني أصلاً أقواله على شاشة تلفزيون دبي، في برنامجه الديني الذي كان يزداد فيه شططاً، فأغلقوه بعد أن أقيمت ضدّه الدعاوى، واستهجن الناس مواقفه المضطربة بين سياسات هذا وذاك. وكم كنت أود أن يعيد الرجل التفكير، مرة تلو أخرى، في الشخصية التي رسمها عن نفسه، وقد أنيطت صلاحية ما يشاء قوله، وما أذاعه من أحكام تدلّ دلالة كبيرة على غرائب تعكس وجه بيئته وثقافته في العراق وحده، من دون معرفته العالم أو قراءة ثقافاته. وكنت أعطف عليه، وأنا أجده يُدخل نفسه في ما لا يعنيه.. أو يمضي على غير هدى، وخصوصاً عندما بدأ يشتغل في السياسة وهو ليس سياسيا، وراح يغرد في التاريخ وهو ليس مؤرخا، وأخذ يوزّع الأحكام جزافاً في الجغرافيا العراقية وهو ليس عالما فيها.. ولكن من أكثر منحدراته أنه أخذ يتنبأ بما سيحصل، وما سيجري، إذ جعل العراق فردوسا وجنانا، وتلك لعمري أكذوبة وخديعة للناس واللّعب على عواطفهم، ولم نجد حتى الآن شيئاً من تنبؤاته قد تحقق. ونسأل: لماذا كلّ الإساءات والمبالغات وتضخيم الذات وكيل المديح الفارغ والمجاملات؟ من أسوأ ما لدى هذا الشيخ الخلط بين الدين والسياسة، وبين المذاهب والأوطان، وبين الواقع والخيال، وبين الماضي والمستقبل، وبين الأسطورة والأوهام، وبين الشيعة والسنة، وبين علي ومعاوية، وبين السعودية وإيران، وبين عشق الحاكم وشتمه مثل صدام حسين ونوري المالكي وغيرهما.. وكم تمنيتُ عليه أن يبقى محترماً نفسه في قصره في دبي، ليقضي ما تبقى من حياته سعيداً بصالح الأعمال بعيداً عن الهذيان، ومن دون الدخول في ما لا شأن له به.
أكتب مقالتي اليوم ناقداً معارضاً، بعد أن بلغ السيل الزّبى في موقفه أخيرا، إذ كانت زيارة الكبيسي أخيرا إلى العراق، بدعوة من رئيس الحكومة، حيدر العبادي، من دون الإفصاح عنها، ولا عن فحواها أو هدفها، فما جدواها يا ترى؟ خرج رئيس ديوان الوقف السني، عبد اللطيف الهميم، يستقبله بحفاوةٍ على سجادة حمراء. ويتجلى هنا موقف جديد بمناداة الكبيسي الهميم أن يكون مرجعاً أعلى للسنّة العراقيين، في خطوة بليدة وساذجة ومخادعة، لا سابقة لها في التاريخ، فالشيخ الكبيسي يدرك حتماً أن ليس للسنّة في التاريخ أيّ مرجع ديني يجمعهم، أو إمام يتقدمّهم جميعاً. والسنة في العراق على مذاهب ثلاثة: حنفية وشوافع وبعض حنابلة.. وسنّة العراق أنواع وألوان، فهم بين متصوفة بطرائق ثلاث أو أكثر، كالقادرية والنقشبندية والرفاعية، وسلفية وأصولية سياسية باتجاهات معقدّة شتى، وأحزاب وجماعات متطرفة ومتعصبّة ووسطية، فما معنى أن يكون هناك عرش فقهي للعراقيين السنة؟ فهم ليسوا على غرار الشيعة الاثني عشرية، لا في الشريعة، ولا في التاريخ، لا في الواقع، ولا في البيئات، لا في النظام، ولا في الطقوس أباً عن جد. ومن ناحية أخرى، الشيخ عبد اللطيف الهميم متهمّ بتهم شتى، ولا يصلح رئيساً لوقف المسلمين، فكيف يغدو مرجعاً دينياً أعلى للسنة المسلمين؟ هل كان ترشيحه مرجعاً لعموم السنة في الأرض، أم للعراقيين السنة؟ علماً أنّ السنة على امتداد تاريخهم لم يكن لهم إمام يقتدون به، أو مرجع يهتدون بهديه. وإن كان هذا حال السنة العراقيين الملتزمين، فما الذي يجبر غيرهم من غير الملتزمين دينياً على قبول هذه الخطوة المفلسة؟
إن كانت قد وجهت الدعوة للكبيسي لزيارة العراق، باعتبارهِ واسطة عقد لتقريب السنة إلى نظام الحكم الحالي، فقد أخطأ الطرفان، فالعبادي الذي استقبله لا نعرف ما الذي أراده. أما الكبيسي فقد استُخدم ورقةً من أجل الانتخابات المقبلة، لا أكثر ولا أقل. وسيُرمى بعيداً وهذا ما حصل. إذ كانت زيارته في مهمّة قصيرة، تبدو سياسيّةً أكثر منها وطنية، فلم يبق هذا الزائر على أرض وطنه إلا ساعات معدودات، أطلق فيها التصريحات النارية ومضى عائداً إلى دبي. ولو سألني لقلت له: شعبك العراقي أهم بكثير من نظامٍ حاكم لم تتوان تصفق له ولرؤسائه عهداً وراء آخر.. وكنت سأنصحه أن يزور العراقيين المسحوقين في مدنهم المدمّرة، وأن يقف عند إخوته النازحين وقفة وطنية، ولو مرة واحدة. كنت سأنصحه أن يقول كلمة حقٍّ عن وطن ذبحه الأشقياء والمخادعون والمجانين، ويفصح مليا عن السبب الحقيقي لزيارته الخاطفة.
استهجن الشعب العراقي، بعموم سنّته وشيعته، وكلّ فئاته المتنوعة، هذه الحركة التي مثّل دورها شيخ يتكّلم باسم العراقيين السنة، وهم لا يعلمون شيئاً. يدرك العراقيون أن شيوخا معممّين ومعكّلين اتهموا بصفقات سياسية ومالية ورشاوى وتبديد أموال الوقف السني، والاستيلاء على الأراضي الوقفية والتصريحات العنترية، وعدم الوقوف أبداً مع حقوق أهلهم، فضلا عن أنهم بيادق سلطة أولا، وعملاء لهذه الدولة أو تلك ثانياً، فضلا عن مشاكساتهم وعجزهم الفاضح أمام الدواعش ثالثاً.
كانت دولة الإمارات قد أرسلت الشيخ الكبيسي إلى العراق بعد الاحتلال الأميركي في العام 2003 في مهمّة سياسيّة واضحة، وبدأ يلقي خطبه في المساجد، وأسس هيئة علماء المسلمين. وكانت له أنشطته السياسيّة في العراق في ظلّ الاحتلال الذي سمح له بإلقاء خطبه وإصدار صحيفته، ولكن مهمته انتهت بمغادرته العراق فجأة، هاربا بسبب تهديداتٍ تلقاها. هذا السيناريو فعله كثيرون أمثاله. المشكلة في الرجل أنه مطالبٌ بإيضاح تناقضاته التي كنا سمعناها وشاهدناها مراراً، ومنها محاضرة ألقاها في عمّان قبل أعوام، تعهّد فيها أن يصير العراق، بعد سنة على وصول نوري المالكي إلى رئاسة الحكومة، بلداً متطوراً مثل السويد. وقال إن للسنة أيضاً مهديا منتظرا يراه اليوم يمشي في شوارع بغداد، وقريباً سيقود العراق إلى مدارج العلى والكمال في أسرع مما نتخيل (!). وقبل فترة، وضع نفسه في مأزقٍ لا يحسد عليه، خرج يهاجم الوهابية بعنف، فأقيمت دعاوى قضائية ضدّه، وصدر الأمر بإغلاق برنامجه الديني من محطة تلفزيون دبي، ومنها جوابه غير اللائق على امرأةٍ كانت تحاوره بطريقة معقولة، ومنها تأييده الكرد في انفصالهم وتأسيس دولتهم، وتشبيهه الزعيم العراقي الكردي، مسعود البارزاني، بصلاح الدين الأيوبي، ودعوته السنة أن يلتحقوا بالدولة الكردية! في حين يردّد دوما أن العراق هي البلاد المقدسة.. إلى غير ذلك من أخطاء مفضوحة.
أدعو للرجل أن يستعيد عقله بمراجعة فكره ومحاسبة ذاته، وأن يقدّم اعتذاره، ويسحب تصريحاته ويشجبها.