بقلم: ذكرى البياتي
في لحظات التأمل والسكينة، قد نجد أنفسنا نجلس على ضفاف شواطئ ذكرياتنا، نسترجع ما كان وما بقي في أعماق الروح من صورٍ عابرةٍ للأزمان. وفي هذه اللحظات، قد يظهر لنا “بائع النسيان”، ذلك الذي يعدنا بالقدرة على نسيان الماضي والمضي قدماً دون عناء. لكن، كيف يمكن للنسيان أن يمحو ما هو محفور في ذواتنا؟ هل يمكن للحياة أن تأخذ منا الأشياء التي نحبها بهذه البساطة؟ أم أنها تغرقنا في تفاصيلها حتى نفقد إدراكنا لأنفسنا ونسأل: من نحن؟ ولماذا نحن هنا؟
الحنين إلى الوطن، إلى العراق تحديداً، هو أكثر من مجرد شعور عابر. هو ارتباط روحي يتجدد مع كل ذكرى وكل لحظة تأمل. ففي ظل الظروف الصعبة التي قد تباعد بيننا وبين الوطن، يظل الحنين حاضراً كضوءٍ لا ينطفئ، يتجلى في كل تفصيل صغير من حياتنا. هذا الحنين هو ما يعيدنا إلى أنفسنا، ويذكرنا بالحب الذي نحمله تجاه أرضنا وأصلنا.
البحث عن الذات في زحمة الحياة
تُظهر الحياة، في أحيانٍ كثيرة، وجهها الصعب حين تأخذ منا ما نحب، وتغرقنا في دوامة من المسؤوليات والانشغالات التي تجعلنا نفقد الاتصال بذواتنا. في هذه اللحظات، نحتاج إلى العزلة، إلى الابتعاد عن الآخرين، ليس هروباً، بل دواءً لنعود أصدقاء لأنفسنا. هذه العزلة تسمح لنا بأن نعيد اكتشاف من نحن، أن نرى كم كبرنا وكم تغيرنا. إنها فرصة للتأمل الذاتي، لتقييم حياتنا، والعودة إلى أنفسنا بأفكار جديدة ورؤية أوضح.
في هذه اللحظات من البعد عن الضجيج، ندرك أن القوة الحقيقية التي نحتاج إليها تأتي من داخلنا، من العمود الفقري الذي يساندنا عندما لا نجد من نتكئ عليه. هنا، نصل إلى حقيقة مهمة: لا أحد يمكنه أن يفهمنا أو يدعمنا بقدر ما نفعل نحن لأنفسنا. علينا أن ننظر إلى أنفسنا من خلال أعيننا نحن، لا من خلال أعين الآخرين. هذا هو الطريق لاكتشاف الذات الحقيقية.
الحب والوطن: علاقة تتجاوز الزمان والمكان
حين نتحدث عن حب الوطن، لا نتحدث عن حب تقليدي محدود بالزمان أو المكان. حب الوطن هو شعور يتجاوز العقل والمنطق. هو تيار جارف، لا يمكننا مقاومته مهما حاولنا. إنه الرابط الذي يجعلنا نشعر بأننا جزء لا يتجزأ من تلك الأرض، مهما ابتعدنا عنها. وكأننا خلقنا من ترابها، ولا يمكن لقوة على وجه الأرض أن تفصل بيننا وبينها.
هذا الحب يشبه اللقاء في عالمٍ آخر، عالم لا تحكمه قوانين السياسة أو العقل. إنه عالم الروح والحنين، حيث تتلاقى الأرواح رغم المسافات والصعوبات. في هذا العالم، نكتب رسائل إلى الوطن، رسائل لا يقرأها إلا الحنين العميق الذي يربطنا بتلك الأرض. نكتبها بدموع صامتة، دموع لا تراها العيون، لكنها تتدفق من الوجدان.
العودة إلى العراق: حلم الروح ونداء الحنين
رغم الفراق والصمت الذي يحيط بنا، يظل الحنين إلى العراق حياً. إنه حنين لا يمكن للوقت أو الظروف أن يمحوه. في كل لحظة ننتظر العودة إلى تلك الأرض التي حملتنا منذ الولادة، الأرض التي زرعت فينا حباً لا يمكن للزمان أن يطفئه. هذا الحنين ليس مجرد رغبة في العودة إلى مكانٍ مادي، بل هو توق للعودة إلى الجذور، إلى الأصل الذي يجمعنا بوطننا.
فمتى ستحضن أرواحنا تراب العراق؟ هذا السؤال يظل حاضراً في قلب كل من يحب وطنه، ينتظر اللحظة التي يعود فيها ليتنفس هواء بلاده، ويشعر بدفء أرضه تحت قدميه.
ختاماً: الحنين والحب الأبدي
في النهاية، يبقى الحنين إلى الوطن هو الرابط الذي لا ينقطع، حتى وإن فرقتنا المسافات. إنه شعور يرافقنا في كل خطوة، وكل نبضة قلب، يدفعنا إلى التمسك بما نحن عليه، وإلى أن نكون أصدقاء لأنفسنا قبل كل شيء. فالحياة قد تأخذ منا الكثير، لكنها لا تستطيع أن تأخذ منا حب الوطن، هذا الحب الذي يجمعنا بالعراق، ويبقى محفوراً في أرواحنا إلى الأبد.