يخوض المقاتلون السابقون في الحرب الأهلية في ليبيا في الوقت الحالي، حرباً مالية وموارد على الثروة الهائلة للبلاد، لكن لا يزال بإمكان واشنطن و”بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا” ممارسة ضغط أكبر من الجهات الفاعلة الأخرى إذا اختارتا ذلك.
تستمر ليبيا في الانحدار إلى الفوضى مع استمرار الصراع حول مستقبل “مصرف ليبيا المركزي”. فقد فرَّ الصادق الكبير، محافظ البنك الذي خدم لفترة طويلة، من البلاد بسبب التهديدات التي تعرض لها هو وموظفيه. وتوقفت عمليات المصرف، الأمر الذي يهدد النظام المالي في البلاد والثقة الدولية في البنك نفسه.
وبدلاً من حرب أهلية جديدة بين الجماعات المسلحة، تُخاض هذه الحرب المالية على ثروة ليبيا الكبيرة – وخاصة السيطرة على “مصرف ليبيا المركزي” وإنتاج النفط. وعلى نطاق أوسع، دفعت الطبقة القيادية غير الشرعية في البلاد ليبيا إلى مزيد من الفوضى لتحقيق مكاسبها الخاصة. وفي غياب تدخل دولي قوي يمكنه استغلال هذه الكارثة المالية الحالية، فإن البيئة السياسية في ليبيا سوف تزداد تدهوراً، حتى لو تم حل الأزمة المصرفية بشكل مؤقت.
سياسة معطّلة
تتطلب المبادرة الأخيرة برعاية الأمم المتحدة، والتي أُعلنت في 2 أيلول/سبتمبر، بعض الخلفية حول تطور المؤسسات السياسية في ليبيا. إن الاتفاق المزعوم بشأن مستقبل “المصرف المركزي” هو بين “مجلس النواب” المنتخب في عام 2014 و”المجلس الأعلى للدولة” الذي تم تشكيله كجزء من “الاتفاق السياسي الليبي” في عام 2015 من جهة، و”المجلس الرئاسي” من جهة أخرى. وهذه صيغة غير عادية لأن “مجلس النواب” و”المجلس الأعلى للدولة” لا يتفقان أبداً. ويُقال حالياً أنهما اتفقا على ترتيب انتقالي بديل بعد مغادرة الكبير.
ويجدر بالذكر أن “المجلس الرئاسي” نشأ من “منتدى الحوار السياسي” الليبي لعام 2021 بعد الحرب الأهلية 2019-2020. وكان “المجلس الرئاسي” المكون من ثلاثة أعضاء غير مؤثر أساساً حيث تنازل عن معظم سلطته الاسمية لـ “حكومة الوحدة الوطنية” ورئيس وزرائها عبد الحميد الدبيبة، الذي كان في منصبه لأكثر من عامين بعد انتهاء ولايته المقررة. وكان الخلاف بين الدبيبة والصادق الكبير يتعلق بالإنفاق، مما أدى إلى الأزمة الأخيرة. وأطاح “المجلس الرئاسي” بالكبير، مستشهداً بحقه الدستوري – وهو ادعاء قانوني مشكوك فيه تم الطعن فيه على الفور.
ثم عيّن المجلس محافظاً جديداً، هو عبد الفتاح عبد الغفار. وصدرت تغريدة عن حساب “مصرف ليبيا المركزي” في 2 أيلول/سبتمبر بأن المصرف «قد عاد إلى حالته “الطبيعية”». وفي مؤتمر صحفي عُقد قبل يومين، تعهد عبد الغفار بـ”الشفافية والإفصاح للسلطات الإشرافية عن كل البيانات المتعلقة بالبنك” وتعهد بـ “عدم إخفاء أية بيانات”.
ورغم أن “مصرف ليبيا المركزي” الجديد يسيطر الآن على المبنى الخاص بالمصرف – ووفقاً لأحد التقارير، على رموز “سويفت” – فيبدو من غير المرجح أن تعود العلاقات الدولية للبنك إلى طبيعتها في غياب حل متفق عليه دولياً للأزمة المصرفية. وقد يكون المصرف قادراً على دفع رواتب معظم الليبيين في القطاع العام بالدينار، في الوقت الذي يظل فيه النظام المصرفي غير واضح.
على مر السنين، تم إعاقة أي اتفاق ليبي محتمل إما من قبل قائد “الجيش الوطني الليبي” المتمركز في شرق البلاد، المشير خليفة حفتر، أو من قبل المفسدين الدوليين – أو كليهما. وخلال عدة جولات من المفاوضات حول “الاتفاق السياسي الليبي”، دائماً ما كان حفتر يجد وسيلة لرفض أي اتفاق. ومن المؤكد أن نظرائه في غرب البلاد لم يكونوا بريئين، لكن السعي وراء حفتر أثبت عدم جدواه، كما ظهر بشكل صارخ عندما هاجم طرابلس في عام 2019. وعندما تم التخطيط لإجراء الانتخابات في كانون الأول/ديسمبر 2021، كان ترشيح حفتر أحد العقبات الرئيسية التي أدت إلى تأجيلها إلى أجل غير مسمى.
استخدام النفط كوسيلة ضغط
دعمت مصر حفتر طيلة الفترة الماضية، بينما أنقذت تركيا طرابلس في عام 2020. لكن اليوم، إن التحالف الأكثر تهديداً لحفتر هو التحالف مع روسيا، التي لن تدع بالتأكيد معركة الثروة الليبية تمر دون استغلال. ومن المؤكد أن ذلك سيشمل التلاعب بإنتاج النفط الليبي.
في أوائل آب/أغسطس، أغلق صدام حفتر، الإبن غير المتسامح لخليفة حفتر، حقل “الشرارة” في جنوب غرب ليبيا، مما قلل الإنتاج بمقدار 300,000 برميل يومياً من إجمالي 1.3 مليون برميل يومياً تم الإبلاغ عنها في أواخر تموز/يوليو، وفقاً “للمؤسسة الوطنية للنفط” في ليبيا. وبحلول 24 آب/أغسطس، انخفض الإنتاج مجدداً إلى أقل من 600,000 برميل يومياً، وأعلنت “المؤسسة الوطنية للنفط” حالة القوة القاهرة في العديد من الحقول، معظمها أُغلق من قبل حفتر لتعزيز موقفه في المنافسة على “مصرف ليبيا المركزي”.
وانخفض الإنتاج إلى 300,000 برميل يومياً، مع استمرار تشغيل حقل “الواحة” الواقع في أقصى غرب البلاد بشكل منتظم. وقد استأنفت “شركة الخليج العربي للنفط” الإنتاج بمقدار 140,000 برميل يومياً، ولكن معظم الإنتاج كان لمصافي التكرير المحلية لتغذية شبكة الكهرباء المحلية، وليس للتصدير.
وحالما أعلنت “المؤسسة الوطنية للنفط” حالة القوة القاهرة، ارتفعت أسعار النفط العالمية بنسبة 2-3%. وقد استقرت الأسعار منذ ذلك الحين بسبب عوامل أخرى، مثل الزيادة المخطط لها في الإنتاج من قبل تحالف “أوبك+” وانخفاض الطلب الصيني، لكن تقلبات إنتاج ليبيا تشير إلى الكيفية التي ستستمر الاختلافات في إنتاجها في التأثير بشكل كبير على أسعار النفط. وتشير تقديرات إحدى شركات تحليل الطاقة إلى أن إنتاج ليبيا قد يستقر بين 300,000 و400,000 برميل يومياً إذا ظل حقل “الواحة” مفتوحاً – حتى مع انخفاض الإنتاج واستمرار تشغيل الحقول التي تديرها “شركة الخليج العربي للنفط”.
ويعتقد خبراء آخرون أكثر تفاؤلاً أن الأزمة ستُحل سريعاً. وتقوم محطات النفط الحالية بتفريغ طاقتها الفائضة من التخزين الزائد، لكن هذا سيتوقف قريباً، وبالتالي فإن التأثير الفعلي للتوقف سيظهر قريباً. وفي كلتا الحالتين، لن يكون استئناف إنتاج حقول النفط عملية فورية.
النفوذ الدولي
على عكس المفاوضات السياسية السابقة في ليبيا، حيث فشلت الولايات المتحدة وشركاؤها الأوروبيون في ممارسة ضغوط كافية على الأطراف الليبية والدولية التي عرقلت استقرار ليبيا، تمتلك واشنطن الآن نفوذاً كبيراً لمعالجة الأزمة المتعلقة بـ “مصرف ليبيا المركزي”.
وقد عقدت “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا” منتدى تفاوضي لحل الأزمة المتعلقة بـ “مصرف ليبيا المركزي”. ولدعم هذه المفاوضات، بإمكان الولايات المتحدة أن تهدد البنوك بعدم التعامل مع “مصرف ليبيا المركزي” إلى حين يتم التوصل إلى حل مقبول وشفاف. ونظراً لتقارير مفادها أن البنوك الكبرى قد أوقفت التعاملات بالدولار مع “مصرف ليبيا المركزي”، فإن دعم الولايات المتحدة للعملية التي تقودها “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا” يجب أن يكون له وزن كبير – أكبر بكثير مما يمكن أن يفعله المفسدون التقليديون.
وفي اقتراح أكثر تطرفاً، بإمكان الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين استخدام التكتيك نفسه لحل النزاع الطويل الأمد حول تشكيل حكومة تكنوقراطية جديدة للمساعدة في استقرار البلاد. وستواجه هذه الحكومة تهديدات من الجماعات المسلحة، ولكن إذا إذا حُرمت هذه الجماعات من التمويل، فقد تتراجع. وقد يؤدي ذلك أيضاً إلى خلق الوقت والمساحة لتشكيل تحالفات ليبية بديلة من السكان لتحل محل النخب السياسية التي تعاملت مع ليبيا لفترة طويلة وكأنها حسابات مصرفية شخصية لها.
بين فيشمان هو “زميل أقدم في زمالة ليفي” في معهد واشنطن ومسؤول سابق في “مجلس الأمن القومي” الأمريكي