:تفيد مؤشرات كثيرة بأن حكومة طوارئ وطنية ستتشكّل اليوم، تتويجاً لمساعٍ إسرائيلية لضم “الحزب الدولاني”، وهذا ينذر بالمزيد من البطش بحق قطاع غزة، دون اكتراث بالمدنيين.
“ما ذاقه الإسرائيليون، نهار السبت، يتعرّض له الفلسطينيون منذ 1948″، قالت مراسلة صحيفة “هآرتس” العبرية في رام الله. وتبعها زميلها المحلل السياسي المناهض للاحتلال جدعون ليفي، في تحذيره من شهوة الانتقام وارتكاب جرائم حرب داخل القطاع. لكن هذه أصواتٌ نادرة جداً في إسرائيل، التي تجمع على ضرورة الانتقام وإغراق غزة بالدم والدموع والظلمة، كما تجلى في تهديدات وزير أمنها يوآف غالانت بتغيير واقع الحياة فيها لخمسين عاماً، علاوة على إعلانه حرمانها من الماء والغذاء والدواء. وقد تبعه وسبقه رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بتكرار تهديداته بتدمير “حماس”، وأن مشاهد النار والدمار الحالية في القطاع ليست سوى البداية، مشيداً بالدعم الدولي الغربي غير المسبوق لإسرائيل.
هذه التهديدات الإسرائيلية المعلنة بالصوت والصورة، والتي يرتقي بعضها لجرائم حرب، تنم عن رغبة القيادة الإسرائيلية في الانتقام وتلبية رغبة الإسرائيليين بالمزيد منها، وبتركيع الفلسطينيين وردعهم عن أي فعل مقاوم للاحتلال، خاصة من جهة القطاع المحاصر منذ 2007. لكن ليس فقط رغبة بالانتقام، بل هي محاولة للملمة الكرامة القومية المهانة، استعادة ثقة الإسرائيليين المعطوبة بدولتهم بمستوييها السياسي والعسكري، ترميم قوة الردع النازفة، تحذير إيران و”حزب الله” من الانضمام للحرب. يأتي هذا على خلفية واقع موجع بالنسبة لإسرائيل أكبر وأخطر من صورته في الإعلام، فرجال المقاومة احتلوا ثماني قواعد عسكرية، وأكثر من 20 مستوطنة، تم تدمير بعضها بالكامل، وفي مستوطنات أخرى قتل 15% من سكانها.
قبل أن تقوم إسرائيل على أنقاض الشعب الفلسطيني، في نكبته عام 1948، دعا قادة الصهيوينة، وعلى رأسهم زئيف جابوتنسكي، لبناء دولة يهودية تمد يدها للسلام للعرب، لكنها تكون مبنية من حديد، وجدرانها من فولاذ. وبعد 75 عاماً، حطمت جرافة فلسطينية شبه متهالكة من غزة غطاء العنجهية الإسرائيلية، كما قال الكاتب جدعون ليفي في “هآرتس”، وتمكَّنَ عددٌ قليل من مقاتلي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” من احتلال 20 مستوطنة في ساعة، وفي لحظة الاختبار وجدوا أن بواباتها مصنوعة من قصدير، لا من حديد ولا من فولاذ. ولذا هناك داخل إسرائيل أيضاً من يتساءل هل فوجئت “حماس” أيضاً بسهولة ضربة إستراتيجية موجعة بهذه السرعة واليسر، وهل توقعت أن تحقق تجاحاً بهذا المقدار، أم حققت نجاحاً أكبر مما خططت له؟
حسابات سياسية وداخلية أيضاً
يضاف لذلك اعتبارات داخلية وحسابات سياسية حزبية وشخصية خلف تصعيد متوقع للقصف الإسرائيلي الوحشي، فعندما يهبط الغبار على الأرض، وتنجلي أعماق الصدمة التاريخية، وتتضح صورة الأضرار الفادحة الإستراتيجية اللاحقة بإسرائيل والإسرائيليين غير المسبوقة منذ 1948، وعندما تصمت المدافع ستكون إسرائيل على موعد مع لجنة تحقيق رسمية، كما حصل بعد انتهاء حرب 1973، ومن المرجح أن توجه لنتنياهو تهم خطيرة من شأنها الإطاحة به. وهذا يدفع نتنياهو، على ما يبدو، للمزيد من البطش والتهديد الدموي لاستمالة الإسرائيليين، وتخفيف وطأة غضبهم عليه وعلى حكومته، لا سيّما أنها بطة عرجاء بنظرهم، منذ تشكلت في مطلع العام الجاري، وربما لديه نية بالتحرش بـ “حزب الله”، ومحاولة تحييد تهديداته بضربة واسعة مدعومة من الولايات المتحدة، ومن جهات دولية وعربية أخرى، على أمل أن يشفع له تدمير بنى المقاومة الفلسطينية واللبنانية لدى الإسرائيليين ليبقى في سدة الحكم، بعدما يغفرون له ويصبح ملكاً بالنسبة لهم.
تهديدات أبو عبيدة
وهذا ينعكس الآن في مواصلة نتنياهو تجنيد الحشد الدولي لإسرائيل بـ “خطاب الضحية”، وتفعيل ماكنة الدعاية الإسرائيلية في العالم، وهذا يدفع للتساؤلات عن مدى التزام حركة “حماس” فعلاً بتهديدات الناطق باسمها أبو عبيدة بإعدام أسرى إسرائيليين، ونشر ذلك، ثأراً للعائلات الفلسطينية التي تقتل داخل منازلها بقصف عشوائي منفلت يرتقي بعضه لجرائم حرب.
رغم غرق غزة ببحر من الدم والدمع والظلمة والحرمان من الدواء والماء وحالة الضغط الشديد، هناك توقعات بأن لا تخرج “حماس” تهديدات أبو عبيدة لحيز التنفيذ. وهذا ليس فقط من الاعتبارات الأخلاقية– الإنسانية والإسلامية، بل لأن ذلك عملياً لن يكون مجدياً، فحكومة الاحتلال التي تقصف الأحياء السكنية بعشرات أطنان الديناميت بشكل أعمى قد قررت أنها لا تكترث بموت أسراها في القطاع، وهذا ما قاله عدد من الوزراء الإسرائيليين بالتلميح الغليظ، في الساعات الأخيرة. كذلك، في مثل هذه العملية ستضيق “حماس” هامش مناورتها، الضيق أصلاً، فالمتوقع أن تواصل إسرائيل البطش والقصف الإجرامي العشوائي لأيام طويلة، وسط تأييد غربي ودولي، وحالة عجز عربية، ولن يبقى أمامها سوى محاولة بعض الدول العربية، خاصة مصر وقطر والأردن، أن تتدخل لتخفيف وطأة القصف الوحشي الذي يقتل المدنيين قبل العسكريين، خاصة أن انفجار الجبهة الشمالية التي ستفرج هذا الحصار، وهذا الضغط غير المسبوق على القطاع، يبدو فعلياً غير وارد لحسابات واعتبارات تتعلق بـ “حزب الله”، وربما إيران، رغم وجود دعوات إسرائيلية باستغلال الفرصة والانقضاض على “حزب الله” وتحييده، بدعم أمريكي غربي، وربما عربي غير معلن.
العالم الغربي يكيل بمكيالين، ويرجّح كفة المصالح على كفة الأخلاق في تعامله مع البنت المدللة الإسرائيلية، التي ما كانت لتقوم أصلاً عام 1948 لولاه. وسبق أن ناصرت دول الغرب إسرائيل في حروبها السابقة على غزة، بل حضر قادتها لعندها عندما شنت “الرصاص المصبوب”، في نهاية 2008، على غزة، في حرب قتل فيها 1500 امرأة وطفل، وفق تقرير ريتشارد غولديستون الأممي. ومع ذلك، فإن إعدام أسرى إسرائيليين بيد مقاومة إسلامية سيساهم في منح الغطاء لهذا الغرب المنحاز، الذي يعتبر دائماً أن فلسطين تهاجم إسرائيل، و”كان العالم يتفرج ويدين الفلسطينيين، كأن فلسطين تحتل إسرائيل وليس العكس، هذا عالم أسود وبلا قيم”، كما قال الياس خوري في مقاله المنشور في “القدس العربي” اليوم.
حشر القطاع داخل “طنجرة ضغط”
إسرائيل التي أعلنت اليوم رسمياً عن مقتل نحو 130 من ضباطها وجنودها، منذ يوم السبت، ما زالت تعد قتلاها (900 حتى الآن) وجرحاها (نحو2600) تسعى لاستغلال فرصة الدعم الغربي لتدمير قطاع غزة، وربما تهجير قسم من سكانه، كما جاء في تدوينات الناطق بلسانها، الذي يطالبهم بالانتقال لمصر، ومن المتوقع أن تسخن “طنجرة الضغط”، وتصعد الحرب الفعلية والحرب النفسية لتحقيق سلة أهداف، بعضها غير معلن، ومن خلال استباحة دماء المدنيين أيضاً.
“المطلوب إسرائيلياً الآن هجوم واسع على قطاع غزة، وليس عمليات دقيقة”. هكذا قال مستشار الأمن القومي الإسرائيلي مئير بن شبات، أمس. وتبعه قائد جيش الاحتلال هرتسي هليفي، الذي دعا جنوده للعمل بشكل حاد. هذا هو لسان إسرائيل المصابة في هيبتها وثقة مواطنيها فيها، والإسرائيليين المصدومين بشكل غير مسبوق اليوم، وينطبق القول “على قد الوجع يأتي الانتقام والتدمير”. وهذا يفسر تصريح نتنياهو بأن إسرائيل استدعت 350 ألفاً من جنود الاحتياط، وطلبت كميات كبيرة من الذخائر والعتاد من الولايات المتحدة، التي سارعت للتوضيح بأنها تستجيب لذلك، وأكثر.
من طرفه، وبخلاف السرب الإسرائيلي الداعي لاجتياح القطاع، بعد تدمير الكثير منه بالقصف عن بعد، دعا رئيس حكومة الاحتلال السابق نفتالي بينيت للحذر من اجتياح بري، بقوله: “ربما نقع في مصيدة إيرانية تقضي بأن نتورط في وحل قطاع غزة، أولاً حتى تفرغ مخازن سلاحنا، وعندها سيدخل “حزب الله” على خط القتال، حينما تكون قواتنا قد استنزفت. أقول ذلك ليس استناداً على معلومات، بل تقديرات ومعطيات سابقة”، منوهاً لاتصالات بين قادة إيران.
وفي حديث للإذاعة العبرية العامة تابع بينيت: “حماس هي مجرد عدو وذراع، والعدو الحقيقي هو أخطبوط، وإذا كان لا بدّ من الحرب الآن فعلينا مهاجمة رأس الأخطبوط، وعدم التركيز فقط بحماس”. كما حذّرَ من خطورة وتنوع أعداء إسرائيل.