إنها الإنسانة البصيرة والمستبصرة ، إنها الطبيبة القديرة ، إنها الأستاذة الكبيرة ، إنها الباحثة الدؤوبة، إنها صاحبة الأداء المتميز ، هي التي أعطت لطب العيون حقه بدليل أنها برعت في مجال تخصصها، فحققت الكثير! أجل! إنها تبدع فتقنع! إنها تبرع فتنفع! إنها صاحبة البركة الربانية التي لا يحظى بها إلا المصطافون من عباده انطلاقا من قوله الكريم :” وما يلاقاها إلا ذو حظ عظيم”. إنها أمينة برحو مؤسسة الأكاديمية الجامعية لطب العيون ورئيسة قسم طب العيون بمستشفى الاختصاصات بالرباط، والأستاذة بكلية الطب ، والباحثة ذي الكفاءة العالية والمؤلفة لكتاب” زرع القرنية “وناشرة لعدة مقالات علمية بأمهات المجلات الطبية المحلية والدولية.
إنها مكونة الشباب المتعطش للمزيد من الخبرة والتقنية! إنها صاحبة التجربة الواسعة والمتمرة في مجال تخصصها، إنها قبلة صحية يقبلون عليها المرضى من كل أنحاء المملكة بل وحتى خارج الحدود ، ولا يرضون سواها بديلا.
إنها ملتقى الأخلاق الفاضلة، لأن إنسانيتها ولدت معها ولازمتها في جميع أطوار حياتها، بل وعززها مجال تخصصها، فأصبحت الخيرية ومثالية السلوك عنوان الطبيبة والأستاذة أمينة؛ فكانت كثيرة النفع غزيرة العطاء ، مضحية بالرخيص والنفيس من أجل مرضاها . فكانت الصادقة الأمينة ! ويليق بها عن جد، أن تكون الأمينة بمجال طب العيون إحياء لتراثنا الثقافي الذي كان يعين أصدق إنسان وأمهر خبير بمجال تخصصه كمرجع محوري للمشاورة والمبادرة.
أجل! لقد أصاب من اختار لها هذا الاسم لأنها تجسد جميع معانيه السامية، فهي حقا وصدقا أهل للأمانة ! وما أدراك ما طبيعة تلك الأمانة ! أمانة العلم، أمانة الطب، أمانة التدريس، أمانة محبة وثقة الناس فضلا عن أمانة الأمومة!
إن حياة العظماء لا تقاس بكمية السنين لكن تقاس بكمية العطاء، وعطاء الأستاذة الطبيبة متعدد الجوانب. وفيها يصدق قول سيد الأنام عليه أزكى السلام:” إن الله و ملائكته ومن في السماء ومن في الأرض وحتى النملة في جحرها والسمك في قعر البحر ليصلون على معلمي الناس الخير ” ما أدراك بمعلم وفاعل الخير !!!!.
عطاء الأستاذة أمينة خلقي أولا، لأنها تكرس القيم الجميلة من أناقة فكرية وجسدية، من رقي في التعامل والسلوك، من إخلاص وتفانى في العمل بدافع حسها الفطري المطبوع على الخيرية. نفعها ذوقها المرهف الرقيق والدقيق ، فاستفادت منه في كل مرحلة من مراحل حياتها إذ يظهر جليا، أنها تتذوق من كل شيء أحسنه ، لأنها ترعرعت في أسرة التعليم والتربية ( كان أبوها من رواد هذا المجال في فجر الاستقلال ) فتفتحت نفسها إلى التحليق في أعالي سماء العلم والمعرفة .
وشاء القدر أن يكون مجال تخصصها الطب والذي يتطلب أولا مواصفات إنسانية معينة ودقيقة: من هدوء الطبع ، ولطف ، وكياسة ، و صدق، وصبر، وسخاء وتضحية لبلوغ الهدف المنشود. كما ألهمتها الإرادة الإلاهية باختيار مجال طب العيون وهو فن الفنون كما تقول الأستاذة .
لعل أجمل الأحياء الإنسان ، وأجمل ما في الإنسان العين ، بدليل أنها كانت ولازالت مصدر إلهام ، ألف فيها العلماء ما شاء الله من كتب ونظم فيها الشعراء قصائد جميلة وأبدع فيها كبار المطربين أيما إبداع !
و اختيار الأستاذة التخصص في طب العيون نابع من حسها الجمالي ، ورقة ذوقها وميولها للدقة، فكانت الطبيبة المذهلة و الملهمة، بعشقها الملفت لعملها وإتقانه ، مما قادها للريادة في حقل طب العيون بصفة عامة ، وزرع القرنية بصفة خاصة ، أكثر من 2000 عملية أنجزنها كللت بالنجاح والحمد لله. وإذا كان الفنان يبدع ليحلق بنا في عوالم النشوة والطرب، فهي حقا، فنانة تبدع فتمتع بإسعاد القلوب وإعادة البسمة والأمل لشبه اليائسين ، لأنها مبدعة بارعة وطبيبة رائعة وجراحة ساطعة؛ ولن أبالغ ، إن قلت أنها نجمة لامعة في سماء طب العيون ، لكن بعيدة عن الأضواء لأنها تعمل كثيرا ولا تتحدث إلا قليلا .
وحسبك من حب الضعفاء إياها ! حوالي 4 مرات بالسنة ، تتطوع بخبرتها وتجند طاقمها بعد ترتيب الإجراءات اللازمة مع السلطات المعنية للقيام بفحوصات وعمليات جراحية لصالح الطبقات الهشة بالمناطق النائية يستفيد منها الآلاف والآلاف من المعوزين الذين لا يتوفرون على إمكانيات كافية لاستشارة طبيب العيون سواء عام( من إجراء إداري ونقل ومبيت وشراء الأدوية )، أو خاص من أتعاب الطبيب وكلفة الفحوصات التابعة والعملية الجراحية إذا اقتضى الأمر.
أما عطاؤها في المجال العلمي ، فهي الباحثة الحثيثة والمثابرة لأنها لا تكف عن طلب العلم ، هذه الرغبة الملحة التي نمت معها حتى تطبعت بها ومع الوقت أصبح التطبع طبعا، فأقبلت على الاستزادة من الخبرة ، شعورا منها ، أن العلم لا حدود له ؛ وهي التي تؤيد فكرة الإمام الشافعي رضي الله عنه الذي قال:” كلما ازددت علما زادني علما بجهلي” . فهي طالبة علم، تحسبا لما قد تكشف من أمراض يصعب علاجها . لكن ، بالاجتهاد ومواكبة التطور العلمي من خلال حضورها ومشاركتها بالمؤتمرات العلمية وطنيا ودوليا ، وتنظيمها لندوات علمية بانتظام، وانخراطها بأمهات المجلات العلمية الوطنية والعالمية، تزداد معرفة و مهارة في تخصصها لإغناء رصيد خبرتها وخبرة زملائها ، كما تتبادل التقنيات والمستجدات بالميدان ؛ وهكذا يسهل عليها القيام بالتشخيص الصائب لداء المرضى والتخفيف من آلامهم وتحقيق رغبتهم في شفاء ما بعده سقم. ولن أبالغ إن قلت أنها شبه عاكفة في محراب طب العيون وهي التي أولت عناية خاصة “للحق في البصر” : المحور الأساسي لمنظمة الصحة العالمية، وكانت الأستاذة ضمن الأطباء المهتمين بهذه القضية ليكون المغرب ضمن الدول الموقعين على مشروع “محاربة العمى” (القابل للعلاج)؛ ولحفظ البصر وجب التفكير في زرع القرنية وهي عملية معقدة تتطلب تدخل عدة فاعلين في تناغم تام لإنجاح العملية. و الأستاذة قامت بإنجاز دراسة ميدانية لتسليط الضوء على المشاكل واقتراح حلول أكثر ملائمة مع الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والديني لتصميم خطة ناجعة للتكفل بالمرضى المعنيين بزرع القرنية. وشهادة بعض مرضاها بكتابها خير دليل على كفاءتها العالية بهذا المجال.
والآن ماذا عن جانب الممارسة الطبية ؟
قدراتها المتعددة، وإرادتها القوية لتطوير الذات بالتحصيل العلمي المتواصل شعورا منها بالمسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتقها ، وإدراكا منها بالتطور السريع للعلم، جعلها في مستوى تطلعات مرضاها بتقديم الأفضل لهم ولهن من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب؛ يخصونها بحفاوة بالغة، ويكنون لها من التقدير والمحبة الكثير، لأنها حريصة كل الحرص على شفائهم وشفائهن ، فهي لا تبخل بأي جهد يؤمن لهم ولهن الراحة والسلامة من المرض ويبعث فيهم وفيهن الأمل في التخلص من الألم، إما بالتماثل للشفاء أو استرجاع البصر أو جزء منه .
أجل! فقلبها يتسع لحب الجميع على اختلاف الانتماء الجهوي والمستوى الاجتماعي والثقافي والعلمي .
وقد يكون الطبيب صبيحا ودمثا محبوبا، ولا يكون له من ثقة الناس نصيب كبير، لكن الطبيبة المحنكة جمعت بين المحبة والثقة كأفضل ما تجتمعان، وعرفت بصدقها وأمانتها ! وكيف لا! وهي الأمينة الصادقة بإخلاصها وتفانيها في أداء رسالتها على أحسن وجه.
ومن المؤكد، أن هذه الخصال على كثرتها وندرتها لا تزال بحاجة إلى صفة أخرى، يكون الطبيب المسؤول إليها احوج للتألق والتميز. وهي الإيمان برسالته ورغيته في الإتقان . وإيمان الطبيبة القديرة بقدسية رسالتها قادها لتكريس معظم اوقاتها للبحث العلمي بمواكبة التقدم المذهل ، حتى يستفيد مرضاها من آخر مستجدات تقنيات طب العيون . وكانت نتيجة هذا الجهد ، ذلك الإقبال غير مسبوق ، وفي ظرف وجيز أصبح اسمها ساطعا وأداؤها لامعا ملئ الأسماع والأبصار ؛ لا يقبل المرضى إلا باستشارتها ورعايتها الطبية المباركة بالمشيئة الإلاهية ، لأن الله يعلم حيث يجعل رسالته . كما تقوم بالمتابعة المنتظمة لمراقبة أحوال مرضاها عن قرب أو عبر الوسائل التكنولوجية نظرا لبعد المسافة أحيانا .
إنها لا تسعد ولا تطمئن إلا عند ارتياح مرضاها بعد التأكد من تمرة جهدها وتحقيق هدفها .
أما عطاؤها في مجال التكوين فله بعد آخر، وهي التي كونت أكثر من 300 مختص في ظرف 3 عقود . إنه عمل وطني نبيل يهدف إلى تعدد الخبراء وصقل مواهبهم وتطوير ميلهم إلى هذا التخصص الدقيق، كي تعم الفائدة وتمنع الاحتكار لتفادي المضاربة بصحة الإنسان؛ علما منها أن الصحة أنفس ما يملك الإنسان وإدراكا منها أن العقل أقدس من أن يدنس . فمجال التعليم يعنى بالعقل و الروح، ومجال الطب يعنى بالجسم ولا يجوز التلاعب أو المتاجرة بهما. وانطلاقا من هذه القناعة ، فهي توظف كل طاقتها لتكوين جيل صالح ، كفئ ونافع ، قادر على مواجهة تحديات العصر لا سيما المساس بقداسة رسالة التعليم وممارسة الطب ، بحكم طغيان المادة في أيامنا هذه، والذي حط من شأن القيم الإنسانية . لكن بفضل وجود الأستاذة وأمثالها وهم كثر ولله الحمد ، يبقى أملنا كبير في استلهام الجيل الصاعد كي يتشبع بالمبادئ السامية لإنقاذ البشرية من الهلاك.
إن كتابة هذا المقال في حق هذه الأسطورة المتعددة الأبعاد ما هو إلا اعتراف جزئي بفضلها على طلبتها ومرضاها في جميع أنحاء المملكة فضلا عن الجوائز العلمية التي أحرزت عليها وطنيا ودوليا ، أذكر منها لا على سبيل الحصر: جائزة فاطمة الفهري من طرف المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ، وجائزة أفرويس وجائزة الشريط الطبي وووو…. . ولا أزعم أني استوفيت حقها بسرد جميع المعطيات العلمية و إنجازاتها الطبية بالمستشفى ودراساتها الميدانية التي أشرفت عليها بالجامعة والأكاديمية الجامعية لطب العيون . كما أني لا أدعي الكفاءة اللازمة للحديث عن عطائها المتميز لمدة 30 سنة ، والذي خلف بصمة فارقة في حياة طلبتها ومرضاها الذين يكنون لها كل الحب والتقدير. وبما أنني لست مؤهلة للكتابة عنها بصفة شاملة ، فإني آمل أن يوفق بعض طلبتها بكلية الطب فرع العيون في أطروحة علمية ، تتناول سيرتها ومسارها العلمي بالتفحيص والتمحيص، لأنها قدوة صالحة للأجيال الحاضرة والقادمة . إذن خدمة لهذا الوطن ، أناشد الأيادي البيضاء تسليط الضوء على خيرة أبناءه كالأستاذة وأمثالها . فالله أطلب لها أولا الصحة والعافية والمزيد من الإلهام والتوفيق والتألق لأداء رسالتها ذات الأهمية القصوى.
بصدق وإيجاز
نجاة بنونة: المعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد الوطني