بقلم: حارث الخطاب
أستاذ جامعي وباحث أكاديمي في مجال أمن الفضاء الإلكتروني
(مقال يقرأ في دقيقتين)
منذ سنوات تخوض إسرائيل حرباً إلكترونية متبادلة مع العرب، في إطار الصراع الدائر بينهما على دولة فلسطين. حيث تعد الحرب على قطاع غزة واحدة من أكثر الصراعات تعقيداً وتحدياً في العالم، وقد تطورت إستراتيجيات الحرب الإلكترونية، وتكتيكاتها على مر السنين لتتكيف مع المخاطر والتحديات التقنية والعلمية الحديثة. وفي الأونة الأخيرة، أصبح استخدام الذكاء الإصطناعي (AI) في حروب غزة أمراً بالغ الأهمية، حيث يساهم الذكاء الإصطناعي في تحسين قرارات القادة العسكريين، وتوجيه الأسلحة، والضربات بدقة أكبر.
ففي يوم الثلاثاء الموافق (17\9\2024) وفي تمام الساعة 3:30 عصراً تحديداً، قال مسؤولون في الحكومة اللبنانية إن آلاف الأشخاص أصيبوا وقتل العديد منهم عندما انفجرت أجهزة الإستدعاء (Pagers) الخاصة بهم في وقت واحد تقريباً في جميع أنحاء لبنان وبعض المناطق من سوريا، حيث أكد حزب الله إصابة بعض أعضائه وألقى باللوم في الهجوم على إسرائيل.
كما ذكر وزير الصحة اللبناني فراس أبيض إن طفلاً كان من بين تسعة أشخاص على الأقل قتلوا في الانفجارات التي أدت إلى إصابة أكثرمن 3000 شخص. وقال إن ما لا يقل عن 170 شخصاً في حالة حرجة، على الرغم من أن طبيعة الإصابات الأخرى غير واضحة، كما جاء في تقرير من شبكة سي إن إن الأخبارية.
وقالت وزارة الصحة اللبنانية إن العاملين في مجال الصحة في مختلف أنحاء لبنان طُلب منهم التوجه إلى العمل على وجه السرعة، نظراً “للعدد الكبير من الجرحى الذين تم نقلهم إلى المستشفيات” في أعقاب انفجارات أجهزة الإستدعاء، كما دعا المسؤولون الناس إلى التبرع بالدم تحسبا لزيادة الحاجة.
تأتي هذه الحادثة غير العادية وسط عداء متزايد بين حزب الله وإسرائيل، والتي تزيد من التوترات السياسية و الأمنية في المنطقة. حيث قال حزب الله في بيان صدر مساء الثلاثاء: “نحمل العدو الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن هذا الهجوم الإجرامي”، متعهداً بالانتقام. وأضاف حزب الله أن “هذا العدو المجرم الغادر سينال جزاءه العادل على هذا الاعتداء الآثم، سواء كان متوقعا أو غير متوقع”.
كما ألقت الحكومة اللبنانية باللوم على إسرائيل في الانفجارات، وأدانت الهجوم باعتباره “عدواناً إسرائيلياً إجرامياً”.
هذا وكان الحزب قد أكد في وقت سابق على قناته على تليجرام أن “العاملين” في مؤسسات حزب الله المختلفة تأثروا بالانفجارات، حيث أصيب “عدد كبير” من الأشخاص، وقال حزب الله إن أجهزته الأمنية بدأت تحقيقاً في الحادث.
لكن الجيش الإسرائيلي، الذي يتبادل الضربات مع حزب الله منذ أشهر، قال بإنه لن يعلق على هذه الحوادث. لكن صحيفة يديعوت أحرونيت كانت قد ذكرت في تغريدة لها الى مسؤولية إسرائيل عن هذا الهجوم الإلكتروني الواسع النطاق في لبنان، الإ انها قد تراجعت بعدها وحذفت التغريدة بعد دقائق من نشرها.
أجهزة أستدعاء مخترقة
أفادت قوى الأمن الداخلي اللبنانية أن الانفجارات طالت عدة مناطق في لبنان، ولا سيما في الضاحية الجنوبية لبيروت، وأفادت وكالة الأنباء الرسمية أن أجهزة أستدعاء مخترقة (Hacked Pager Devices) والتي تم إستيرادها من شركة “كولد أبولو” (Gold Apollo) في تايوان، كانت قد انفجرت في بلدتي علي النهري ورياق في منطقة البقاع وسط لبنان، بعد أن تم التلاعب ببرمجيات أجهزتها الرقمية، مما أسفر عن عدد كبير من الإصابات، وتعتبر هذه المواقع معاقل لحزب الله، كما أصيب السفير الإيراني في لبنان بجروح طفيفة أيضاً، بحسب وكالة أنباء فارس شبه الرسمية الإيرانية.
ومن جهتها ذكرت شركة كولد أبولو التايوانية يوم الأربعاء إنها سمحت بوضع علامتها التجارية على أجهزة الاستدعاء التي انفجرت في لبنان وسوريا، لكن شركة أخرى مقرها بودابست كانت قد قامت بتصنيعها. وأضافت الشركة في بيان أصدرته أن أجهزة النداء من طراز AR-924 التي استخدمها المسلحون تم تصنيعها من قبل شركة BAC Consulting KFT، ومقرها في عاصمة المجر.
هذا وقد ذكر المسؤول الأمني في حزب الله الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته لأنه غير مخول له بالتحدث إلى وسائل الإعلام إن الانفجارات كانت نتيجة “عملية أمنية استهدفت الأجهزة”.
وقال المسؤول دون الخوض في التفاصيل “إن العدو (إسرائيل) يقف وراء هذا الحادث الأمني”، وأضاف أن أجهزة الأستدعاء الجديدة التي كان أعضاء حزب الله يحملونها تحتوي على بطاريات ليثيوم انفجرت على ما يبدو.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما الذي يسبب انفجار بطارية ليثيوم ؟
كما هو معلوم، فأن مادة الليثيوم هو أصغر وأكثر المعادن حيوية في الجدول الدوري الكيميائي، حيث يمتاز بحجمه الصغير وكثافتة العالية، وهو شائع على نطاق واسع بين المستهلكين والمهندسين. ولكن الخصائص الكيميائية حيوية للغاية، فإنها تجلب مخاطر عالية للغاية. فعند تعرض معدن الليثيوم للهواء، مع الأكسجين ينتج أكسدة شديدة وانفجار.
يمكن لبطاريات الليثيوم، عند ارتفاع درجة حرارتها، أن تتصاعد منها الدخان وتذوب بل وتشتعل فيها النيران. تُستخدم بطاريات الليثيوم القابلة لإعادة الشحن في المنتجات الاستهلاكية بدءاً من الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر المحمولة وحتى السيارات الكهربائية. يمكن أن تشتعل بطاريات الليثيوم بدرجة حرارة تصل إلى 1100 درجة فهرنهايت.
باختصار، أثناء تصميم وأنتاج البطارية، يكون نظام إدارة البطارية هو الحماية الأساسية لها، حيث أن لكل جهاز رقمي حديث، يوجد نظام إدارة بطارية (Battery Management System) و الذي يوفر خاصيتين أمنيتين للحماية من الشحن الزائد والتفريغ الزائد وكذلك التيار الزائد على التوالي.
في عملية الشحن الزائد للبطارية، يكون التيار الكهربائي كبيراً جداً، في هذا الوقت، تزداد الحرارة الناتجة عن العديد من الدوائر القصيرة الدقيقة من درجة حرارة البطارية ببطء، وبعد فترة من الوقت، يحدث الانفجار. فكلما زاد جهد الشحن الزائد، زاد الخطر الذي يتبعه. وفي حالة تفكك غلاف البطارية، فإنه ينفجر، عن طريق ماس كهربائي خارجي وشحن زائد، في حالة فشل الحماية الإلكترونية له.
فمن خلال وجود البرامج الخبيثة (Malware) التي تتحكم في أنظمة إدارة البطارية، وعندما تستقبل الإشارة الإلكترونية من المهاجين (Attackers) سيفصل نظام إدارة البطارية كلياً عن العمل وبالتالي يقوم بشحن البطارية بشكل كبير وخطير، وبعد فترة زمنية يحدث الأنفجار الكبير للبطارية.
من الجدير بالذكر، فأن هذا الهجوم الإلكتروني الواسع النطاق والذي حدث في لبنان وأجزاء من سوريا، وفي نفس التوقيت، يتناسب كلياً مع استراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي . حيث تعد إسرائيل من الدول الرائدة و المتقدمة في مجال الأمن والحرب الإلكترونية. هذا و قد تمت الموافقة على هذه العملية في الأجتماع الأمني الأخير للكابينة الوزارية الأمنية برئاسة نتنياهو.
من خلال وجهة نظري التحليلية العلمية البسيطة لهذا الهجوم الواسع النطاق، فاني أجد سيناريو تفخيخ الأجهزة الإلكترونية، هو سيناريو كلاسيكي قديم، لا يمكن تنفيذه مع هكذا عدد من الأجهزة، و ذلك لصعوبة تفخيخ مثل هكذا عدد كبير من الأجهزة، لانها سوف تستغرق الكثير من الوقت و الجهد، هذا بالأضافة الى كلفتها المادية العالية .. لكن مع التطور الكبير في تطبيقات الذكاء الإصطناعي يمكن لبرنامج بسيط جداً من السيطرة على مثل هكذا اجهزة رقمية، وهذا الرأي اجده أكثر مناسباً من الناحية المنطقية و يتناسب كلياً مع استراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي كما ذكرت سابقاً.
كما أن هذا السيناريو هو نفس السيناريو الذي حدث في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2010، عندما حدث الهجوم الإلكتروني على المفاعل الذري الإيراني في نطنز(400 كيلومتر جنوب طهران)، في أصفهان بإيران ، عندما تمكنت إسرائيل من اختراق الأنظمة الإلكترونية للمفاعل، إلى جانب منشآت نووية إيرانية أخرى عبر إدخال برنامج فيروسي مُعقد يحمل الاسم “ستكسنت” (Stuxnet) إلى أجهزة الكمبيوتر التي تتحكم في أجهزة الطرد المركزي الإيرانية لتخصيب اليورانيوم، وتسبب ذلك في إحداث فوضى وإخراج أكثرمن (1000) جهاز من أجهزة الطرد المركزي عن نطاق السيطرة.
يُعتبر فيروس “ستكسنت” (Stuxnet) أول سلاح رقمي يستخدم في الحرب الإلكترونية في العصر الحديث، الذي يُعتقد على نطاق واسع أنه من صنع أميركي-إسرائيلي مشترك، هو الأكثر شهرة في عائلة فيروسات الحواسيب المرتبطة بتخريب البنية التحتية .
لكن الظاهر بأن الحرب الإلكترونية القادمة قد بدأت في أستخدام أسلحة رقمية جديدة ومتطورة، وذلك باستخدام تقنيات الذكاء الإصطناعي الحديثة.
وبينما تتصارع دول العالم مع الواقع المرير للذكاء الاصطناعي و مخاطره في الحروب الإلكترونية، دعونا لا ننسى المدنيين والأطفال في غزة، الذين أصبحت حياتهم على المحك، إن مأساتهم هي أكبر شهادة حية في التاريخ الحديث التي تهدد الآن بإعادة تعريف طبيعة الصراع وقيمة الحياة البشرية.